الدين والحياة

“تجديد” الخطاب الديني.. بأي معنى؟ (1)

محمد التهامي الحراق

حين نستعمل اصطلاح "الخطاب الديني" فنحن نعني به تلك الممارسة اللسانية ذات المرجعية العلمية المنضبطة بالشرائط المعرفية لإنتاج الخطاب من جهة، مثلما نعني به ما أنتج حول الخطاب الوحياني من مسارات فهم ومسالك إدراك بشري لهذا الوحي من جهة ثانية. ومن ثم فنحن نستهدف بالقول ما أنتج من خطاب معرفي متعدد الشعب والعلوم لفهم الوحي، وهو اجتهاد بشري في الفهم والإدراك تحولت بعض محطاته التأسيسية مع مرور الزمن إلى "أصل"، في إطاره وحوله ينطرح سؤال التجديد. فكيف نفهم تجديد الخطاب الديني ضمن هذا الأفق؟

لنسجل، بداية، أن اختلاف الرؤى يتبدى في اختلاف تحديد المفاهيم، فالمقاربة التقليدانية للتجديد ترى أن هذا الأخير لا يتعدى كونه "نفضا للغبار" و"رجوعا للأصل النقي الصافي"، وتجاوزا للانحرافات والتصحيفات التي تطول الأصل "جراء التقادم"، ومن ثم فـ"المجدد" ليس سوى بطل في إعادة الأمور إلى كمالها الثاوي في الماضي. بعبارة، المجدد هنا يقيس التغيرات على نموذج ذهني ماضوي معياري كامل، وإن التجديد هنا هو في نهاية التحليل نوع من الإدانة لـ "التغير" ولـ"الصيرورة" وإلغاءٌ للتاريخ، دون أن يلتفت أصحاب هذه الرؤية إلى أننا لا يمكن أن نسبح في النهر الواحد مرتين كما قال هيرقليط، وأن كل عودة للماضي، هي بالضرورة مُسهمةٌ في صياغة "أصلها" تبعا لاحتياجات حاضرة واعية ولا واعية، وأن "الأصل" المنزَّه بشكل مطلق عن التاريخ أي عن  التحول والتغير والصيرورة، إن لم يكن في المتن فعلى الاٌقل في مستوى القراءة، هو "أصل" لا وجود له سوى في مخيلة الراجع والعائد، فيما "الأصل" في تاريخيته المطلقة قد ذهب إلى غير رجعة، وقد تلاشى في حرفيته الماضوية إلى الأبد.

إن كل استحضار لـ "أصل" مضى هو تذكر تتدخل في صياغته الذاكرة، مثلما تتدخل فيه طاقات الخيال واحتياجات المتذكر الواعية واللاواعية، فضلا عن الوثائق والمعطيات المادية المسعفة في هذا التذكر، وهي دوما ناقصة تحتاج إلى ترميم بياضاتها بالتوقع، كما تحتاج في فهمها إلى آليات تأويلية ما تفتأ تتطور، آليات تسهم في إنتاج حقيقتَها ولا تعثر عليها، أي تسهم في بنائها ولا تقولها كما هي؛ لأن "ماهيتها" ضاعت إلى الأبد؛ أو قل صارت ماهيةً مفتوحة ما تفتأ تتناسل وتتجدد مع كل اقتراب يُحْسِنُ توسيع مدى "الأصل" في المستقبل.

 التجديد، كما أفهمه، يعيد النظر فلسفيا في مفهوم "الأصل" نفسه، بحيث يفصل الأصل عن البداية الزمنية، ويحرره من احتكار الماضي، بحيث لا ننظر إلى هذا الماضي إلا لنذهب به نحو مستقبل يكمُن فيه ولم يكُنْه. الماضي هنا يصبح مثل مرآة السيارة التي تعكس الوراء سعيا للذهاب بـ"الأصل" نحو الأمام؛ ذلك أن ما نطلبه بالتجديد لا يوجد في الماضي، لكن هذا الأخير ما يفتأ يقدم مؤشراتٍ ناظمة للذهاب إلى مستقبل يخرجنا من أزمات الحاضر. نعم تفاعَل الماضي مع الوحي المتعالي، ومن ثم قرأ بعض تعاليه، وهو التعالي الذي نستطيع التقاطه من خلال تطوير مدى قدرتنا على أن نميز في هذا الماضي بين ما هو تاريخي محدود الصلاحية بحيثياته الزمانية والمكانية والثقافية والاجتماعية والمجالية، وبين ما هو متعال في هذا الماضي من قيم وحيانية وإشارات روحانية وأخلاقية وإنسية عابرة للأنسقة والأزمنة، وقادرة على أن تلهمنا في سياقاتنا المخصوصة ما به نخرج من أزماتنا في شرائطنا التاريخية المخصوصة. ذاك هو مسار توسيع مدى "الأصل" في المستقبل.

بهذه الملامح، فإن الوعي المطلوب في التجديد الذي نرومه ينأى بنا عن مأزقين؛ مأزق "التجميد" على شروط تاريخية  متجاوَزة نتماهى معها باسم فهم ميتافيزيقي لاتاريخي لـ "الأصل"، فيما الأصل بهذا المعنى الجامد لا يتكرر في تاريخنا، والتاريخ بهذا المعنى قط لا يعيد نفسه؛ مثلما ينأى بنا الوعي المطلوب في التجديد الذي نرومه عن مأزق ثان هو مأزق "التبديد"، وهو إلغاء "الأصل" جملة وتفصيلا باسم التاريخية والصيرورة والنسبية المطلقة، في حين أن في هذا "الأصل" من القيم والإشارات والمتعاليات والكليات ما من شأنه أن يلهم بفعل تاريخي "يفي" لهذا "الأصل" بقدر تجاوزنا للتاريخي فيه، وإعادة إنتاج قيمه المتعالية في السياق المتجدد. هذا المعنى العميق لـ"الوفاء" هو ما أشار إليه ببهاء الفيلسوف بليز باسكال وهو يقول: "إنه يمكننا أن نقول عكس ما يقوله القدماء،  من دون أن نتناقض معهم".

 ضمن هذا المنظور الجدلي لعلاقة الثابت والمتحول  نفهم التجديد، إنه تكرار لـ "الأصل"، لكنه لا يكرّره كما هو، بل هو "تكرار تقطنه الغرابة" حسب عبارة جاك ديريدا، تكرار هويتُه الاختلاف لا المطابقة، تكرار يشبه الشمس وهي تكرر شروقها، لكنها مع كل إشراقة تشرق على يوم جديد، ويشبه الأمواج وهو يتكرر ضربها في السواحل، لكن كل موجة لا تشبه الأخرى، لكونها تختلف عن سابقاتها مع كل مَدّ قوة وزمنا.

ثم إن الناظر في ما قام به المجددون عبر تاريخ الإسلام يكتشف أنهم ظلوا دوما يعودون لـ"الأصول"، لكنهم يعودون إليها بأسئلتهم وانشغالاتهم وإشكالاتهم واحتياجاتهم، ومن ثم ظلوا يجتهدون في الملاءمة بين هذه "الأصول" وهذه الاحتياجات المتجددة، بل ظلوا يجددون في هذه الأصول نفسها طلبا لتجديد أدوات محاورة الوحي، واستمطارا لإجابات أخرى من الوحي ترفع الحرج عنهم، وتيسر لهم شؤون دينهم في دنياهم المتغيرة. فالثابت في المتعالي هو رفع الحرج في الدين والتيسير فيه، فيما ماصدقات ذلك تتغير، والاجتهاد مناطه تحقيق هذه الملاءمة المنشودة، والتي بها يتجدد "الوحي" ويمتد في المستقبل ليصير صالحا لكل الأزمنة والأمكنة. بهذا الوعي، وبه فقط، احتضن الإسلام في تاريخه ثقافات مختلفة، عربية وفارسية وتركية وإفريقية … إلخ، وبه انتشر في بقاع مختلفة الاثنيات واللغات والذاكرات والديموغرافيات والجغرافيات والثقافات … إلخ. وبهذا الوعي أيضا ظل فهم أصل الأصول، أعني الوحي القرآني، دائم التجدد عبر أحقاب، بل دائم التجدد حتى بالنسبة للفرد المسلم الواحد.

 نقرأ في "الفتوحات المكية" قول الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي: "..ألا ترى العالِمَ الفهم المراقبَ أحوالَه يتلو المحفوظ عنده من القرآن، فيجد في كل تلاوة معنى لم يجدهُ في التلاوة الأولى، والحروفُ المتلوةُ هي بعينها ما زاد فيها شيء ولا نقص، وإنما الموطن والحال تجدد ولا بد من تجددهِ، فإن زمان التلاوةِ الأولى ما هو زمان التلاوة الثانية فافهم." إنه وعي بروح التجديد يتقاطع، نوعا من التقاطع، مع الأفق الذي فتحه النقد الحديث وهو يقرر مع رولان بارت، مثلا، في كتابه "النقد والحقيقة": ".. إن الأثر لا يخلدُ لكونهِ يفرض معنى وحيدا على أناس مختلفين، وإنما لكونه يوحي بمعان مختلفة لإنسان وحيد." مثل هذه النصوص على اختلاف "زمنها" و"خلفيتها المرجعية"، تلتقي في "إنارة" و"تنوير" معنى تجديد الفهم للوحي نفسه، كما بسطه النبي صلى الله عليه وسلم  وهو يقول عن القرآن الكريم:"…لَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ…". فمعنى أن القرآن الكريم "لا يخلَق عن كثرة الرّدّ" أنه مهما تكرر لا يبلى ولا تنتهي عجائبه، إنه دائم التجدد، أو قل هو "تكرار تقطنه الغرابة" حسب عبارة ديريدا السالفة. وبذلك يصبح التجديد فعلا دائم التوليد للأصول من الوحي باعتباره أصل الأصول، شرط أن نفهم الأصل بما هو أفق لتناسل معان لا تنضب، و"عجائب لا تنقضي" في الفهم والإدراك. وكل خطاب ديني لا يتحقق بهذا المعنى العميق والكوني للتجديد سوف يظل حاجبا لأسرار الوحي بدل أن يكون كاشفا لها، وسوف يظل معطِّلا لأي تجديد بدل أن يكون مجلى لانبعاث خطاب تجديدي ما يفتأ "يجدد لهذه الأمة أمر دينها".

(باحث وأكاديمي مغربي متخصص في الإسلاميات والتصوف)

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

3 × اثنان =

زر الذهاب إلى الأعلى