صلاح بوسريف يكتب لـ”الدار”: أيُّ مُثَقَّف لأيّ مُجْتَمَع؟
صلاح بوسريف
هل من حق المثقف أن يبقى بعيداً عن مشكلات مجتمعه، أو «الجماهير»، بالتعبير الغرامشي المعروف، أم أنَّ دور المثقف هو أن تكون عينُه على المجتمع، على ما يجري فيه، على مختلف المشكلات التي يتخبَّط فيها، وبالتالي، فهو مطلوب منه أن ينخرط في حل بعض هذه المشكلات، أو في اقتراح الحلول الممكنة لها، من زاوية نظره، وما راكمه من تجربة وخبرة في عمله الفكري أو الثقافي العام؟
المثقف، قبل اليوم، كان هو رجل الدِّين، هو الكاتب والواعظ، وكان، في الفكر المسيحي، هو حارس الثقافة الكهنوتية، كما عندنا، كان الفقيه والعالم، هُما من يقومان بهذا الدور، يتَّصِلان بالناس، يَحُلّان مشكلاتهم الاجتماعية والعائلية، ولهم يد في المجتمع، يتَّصِلون به، عبر مهنة القضاء، كما كان ابن رشد فقيها وفيلسوفاً وقاضياً، أو مهنة التدريس والتعليم. المجتمع كان في مرمى بصر المثقف، بمفهومه التقليدي، وكان هذا المثقف التقليدي، هو الآخر، لا يترك المجتمع بعيداً عن عينيه، لأن الكثير مما يفكر فيه، ويكتبه ويقوله، مرتبط بالمجتمع، وإلا كان عمله عبارة عن كلام لا يعني أحداً، ولا علاقة له بالناس، أو بالإنسان بالأحرى، الذي إليه نتوجَّه بالكلام.
روسو، مثلاً، وهو من مُفَكِّرِي الثورة الفرنسية، حين كان يكتب ويفكر ويتكلَّم، كان فكره اسْتِشْرافياً، ينظر إلى الأمام، يذهب إلى المستقبل، ويرغب في تغيير العقل والفر والوجدان، رغم أنه لم يكن ينتظر «الثورة الفرنسية»، كما يُقال. فكتابه «إميل» في التربية، فيه كشَف أهمية الطبيعة ورحابة الهواء، في مُقابل زَيْف المدينة، وما يجري فيها من تعقيدات وتَشابُكات. الحدس عنده كان أحد ضرورات التربية والتَّعلُّم، والعقل، في ارْتِهانِنا به، يَحْجُب الحدس ويُلغيه. صحيح أن روسو مسَّ المجتمع، ومسَّ علاقة الثقافة بالطبيعة، مُنْتَصِراً للطبيعة، لكنه، هو أيضاً، نسي أن الثقافة التي دفَعَتْه للتفكير في الطبيعة باعتبارها شرطاً للتربية، أو كما ستقول عنه جيرمين دي ستايل، فهو «لم يخترع شيئاً…ولكنه نفخ [في ما اقترحه من أفكار وقضايا] تلك النار التي تَسْتَخْرِجُ خواصَّها المفيدة».
أن يكون روسو، وقبله ابن رشد في ثقافتنا لعربية، اسْتَخْرَجا من النار خواصَّها المفيدة، فهذا هو المطلوب من المثقف، لأنَّ هذه الخواصّ المفيدة، هي الجِدَّة والطرافة، هي ما يضع المثقف في سياق المجتمع، لأن دور المثقف هو أن يُغَيِّر في أفكار الناس، في فكرهم ووجدانهم، في خيالاتهم، بإشعال هذه الخيالات وإيقاظها، وبتربيتهم على المحبة والخير والعدل والجمال، وهذه هي أخطر الأمور التي بدونها لا يمكن لأي مجتمع أن يخرج بنا من مجتمع البشر، إلى مجتمع الإنسان، مجتمع العلم والمعرفة، مجتمع العقل الذي لا يفتأ يبتدع ويبتكر، ولهذه الأسباب، ولغيرها، مما هو من عظائم الأمور التي يمكن أن يقوم بها المثقف، صَوَّتَتْ «الجمعية الوطنية»، في فرنسا إبَّان الثورة، لنقل جُثمان روسو إلى «البانثيون» مقبرة العظماء في باريس، وقد خاطب رئيس «الجمعية الوطنية» الحاضرين بقوله «نحن مدينون لـ «روسو» بالتَّحَسُّن الذي غيَّر من أخلاقنا وعاداتنا وقوانيننا وتقاليدنا ومشاعرنا».
في هذا الخطاب الصادر عن رجل سياسية، أهمية الثقافة والمثقف، والدور الذي يلعبه المثقف في تغيير كل شيء، بل أهم شيء، وهو العقل والخيال، والسلوك والوجدان، أي بإخراج الإنساني من البشري، هذا الأخير الذي فيه نلتقي مع البهيمي في كثير من الأشياء، كما جسَّدَتْ ذلك قصة «حيّ بن يقظان» لابن طُفَيْل، هذه القصة التي فيها بُعْد فلسفي عميق، يشبه ولادة الإنسان من طين، كما جاء في الدين، فالإنسان هنا يخرج من بهيميته، وينخرط في المجتمع، وحتَّى حين يميل إلى الطبيعة، فهو يميل إليها بسلوكه وفكره البشريين.
إذن، فالمثقف ما لم ينخرط في قضايا مجتمعه، في مشكلات المجتمع، ما الذي سيُغَيِّرُه في هذا المجتمع، ومثال روسو يكفي لنقرأ فيه ما نحن عليه من غفلة من أمرنا، في زمن اختلط فيه الحابل بالنابل، وصار الليل فيه يشبه النهار، لا فرق.