هذا ما يعكسه تغيير الصورة الرسمية للملك بمختلف أبعادها السياسية
د. محمد شقير
عمّم سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة، منشورا على الوزراء وكتّاب الدولة والمندوبين الساميين، قصد تغيير الصورة الرسمية للملك محمد السادس التي توضع عادة في مكاتب الإدارات والوزارات والتي لم تغير منذ أزيد من 19 سنة على توليه عرش المملكة. كما تضمن منشور رئيس الحكومة، الذي دخل حيز التنفيذ بداية الأسبوع الأخير من شهر شتنبر 2019، الطلب من الوزراء وكتّاب الدولة أخذ هذه الصور الرسمية بشكل حصري من بريد المغرب؛ وهو ما يثير التساؤل حول الدلالات السياسية لهذا القرار.
المركزة السياسية
أصبحت صور الملك، منذ استقلال البلاد، من الرموز السياسية الرسمية في المملكة؛ فكما تعلق راية البلاد فوق البنايات والمرافق العمومية تعلق الصور الملكية على جدران المصالح والأقسام بالإدارات والوزارات المغربية. وتأخذ هذه الصورة عادة طابعا رسميا من خلال إصدار مراسيم بشأن اعتمادها من طرف الإدارات العمومية، حيث تجسد من جهة التحكم في الهرمية السياسية، ورثت الدولة المغربية بعيد الاستقلال المنطق اليعقوبي الذي خلفته سلطات الحماية. وهكذا، نشرت الدولة هياكلها وأجهزتها الضبطية في أحشاء المجتمع المغربي وتغلغلت داخل مختلف مكوناته البشرية والاجتماعية، سواء على الصعيد المحلي أو على الصعيد القطاعي؛ فعلى الصعيد المحلي، عدد الأقاليم طبقا لظهير 1959 من 13 إقليما وعمالتين إلى 39 إقليما و9 عمالات وولايتين في سنة 1984، ليرتفع إلى 47 إقليما وأكثر إلى 6 ولايات و16 جهة في سنة 1997.
إن ارتفاع عدد هذه الوحدات المركزية لا يعني فقط ارتفاعا في عدد الأقاليم والعمالات، بل يعني أيضا تزايدا في عدد الوحدات الإدارية التابعة لها من دوائر ومقاطعات وقيادات ومراكز مستقلة وجماعات حضرية وقروية.
أما على الصعيد القطاعي، فقد تفرعت وزارة التربية الوطنية إلى أكاديميات ومندوبيات جهوية تشرف على بناء وسير المدارس والإعداديات والثانويات المنتشرة في أنحاء المملكة. في حين تفرعت وزارة التعليم العالي إلى مديريات عديدة تشرف على بناء وتسيير الجامعات والكليات والمعاهد والمدارس العليا المتواجدة في مختلف أقاليم وجهات المملكة. أما على الصعيد الصحي، فهناك إلى جانب الإدارات التابعة لوزارة الداخلية أو الجماعات المحلية المكلفة بالسلامة الصحية، وزارة الصحة العمومية التي تنتشر مندوبياتها في مختلف الأقاليم، التي تشرف على الوحدات الصحية الكبرى والمراكز الصحية والمستوصفات المنتشرة في أنحاء المملكة. أما على الصعيد القضائي، فتشرف وزارة العدل على مجموعة من الإدارات والمحاكم التي تنقسم إلى محاكم للاستئناف ومحاكم ابتدائية ومراكز قضائية.
وإضافة إلى هذه المؤسسات التعليمية والطبية والقضائية، هناك مجموعة من المؤسسات المتفرعة عن كل وزارة من وزارات الدولة والتي تتكلف كل واحدة منها بقطاع من القطاعات الحيوية للبلاد، من طاقة ونقل ومالية وتجارة إلى غير ذلك من القطاعات الأخرى.
وبالتالي، فإن تعليق صورة الملك الراحل الحسن الثاني في مختلف مكاتب ومرافق ومصالح هذه المؤسسات العمومية كان يرمز إلى تربع الملك على هرمية بيروقراطية إدارية ممتدة ومتفرعة في مختلف أنحاء المملكة؛ وهو ما يعكس شخصنة السلطة وتركيزها في شخص الملك كوحدة مركزية لكل والتعليمات والقرارات الإدارية، ويرسخ في أذهان مكونات النخب الإدارية سلطة الملك ليس فقط الإدارية بل سلطته الرمزية وقوة سطوته داخل المجال الإداري.
ولعل هذا ما تعكسه الصورة أسفله بمختلف سيمائيتها وأبعادها السياسية:
– فالتركيز على وضعية جلوس الملك ووراءه كرسي العرش هو علامة على استقرار الحكم واستتبابه.
– والتركيز على يديه الموضوعتين على ركبتيه هو علامة على القوة والمنعة والتعالي في وضع يشبه البورتريهات التي كانت ترسم لرؤساء أمثال لينين أو أباطرة مثل الإمبراطور قسطنطين؛ "حيث هناك ثبوت في تقاسيم الوجه بشكل لا يعكس أية حركة داخلية. والعينان واسعتان كأنهما غير مثبتين على أي شيء موجود أو مرئي؛ مما يعبر على الوضعية المتعالية للإمبراطور ووضعيته كحكم ومتحكم في القدر"…
– التركيز على بعض حواس الملك؛ كإبراز أذنه هو علامة على أن "الملك يسمع كل شيء وعلى إلمام بكل ما يجري بأنحاء المملكة"..
– في حين أن التركيز على العينين واتساعهما فدلالة على أن الملك على اطلاع على كل شيء والإيحاء بأنه فوق كل شيء.
الهرمية الإدارية
تجدر الإشارة إلى أنه، بعد تولي الملك محمد السادس العرش، تم تعليق صورة رسمية لهذا الأخير إلى جانب الصورة الرسمية لوالده الملك الراحل الحسن الثاني في المؤسسات الادارية العمومية بمختلف مديرياتها المركزية الموجودة بالعاصمة أو مصالحها الخارجية الموجودة بجهات أو أقاليم المملكة . فهذه الصورة الرسمية للملك كانت تجسد السلطة التنفيذية في شخص الملك الجديد واحتكاره لكل وسائل الحكم بالبلاد ليس فقط على المستوى السياسي بل أيضا على المستوى الإداري. وبالتالي، فقد كانت هذه الصورة الرسمية للعاهل الجديد لا تختلف عن الصورة الرسمية لسلفه، حيث بدا أن هذه الصورة الرسمية التي اعتمدت طيلة 19 سنة من حكم هذا الملك لا تختلف في خلفيتها وفي وضعية جلوس الملك عن صورة الملك الراحل الحسن الثاني، الشيء الذي كان يتغيا منه على ما يبدو تعويد الأذهان بالتدريج على شخص الملك الجديد كأعلى رئيس لمختلف مستويات وهرميات بيروقراطية المملكة الممتدة والمترامية ضمن الاستمرارية السياسية ومنطق تسلسل وتعاقب الحكم الملكي؛ لكن يبدو أنه، بعد مرور 20 سنة على تربع الملك محمد السادس على عرش المملكة، تبلورت الرغبة السياسية في إضفاء طابع التفرد والاستقلالية على نظام الملك الحالي.
وقد ظهرت تلك الرغبة على الخصوص من خلال مجموعة من الخطب الملكية الاخيرة والتي أعلن فيها العاهل المغربي على مجموعة من التصورات الجديدة؛ والتي من بينها ضرورة بلورة نموذج تنموي جديد يقطع مع النموذج التنموي السابق الذي ساد في عهد الملك الراحل. وبالتالي، تقتضي هذه المرحلة السياسية تسويق صورة مغايرة لشخص الجالس على العرش.
وفي هذا السياق، يأتي طلب رئيس الحكومة من مختلف مسؤولي المؤسسات العمومية تنصيب الصورة الملكية الرسمية الجديدة المرفقة أسفله وإبرازها بعد الحصول عليها حصريا من مصالح "مجموعة بريد المغرب".
وبنظرة سريعة إلى هذه الصورة الملكية الرسمية الجديدة، يظهر الاختلاف الواضح مع الصورة الرسمية السابقة من خلال المظاهر التالية:
– حيث تختفي في هذه الصورة الملكية الخلفية التي كانت تعكس في الصورة الملكية السابقة شعار المملكة المتمثل في الأسدين الحاميين للعرش وتعويضها بخلفية تتشكل من دوائر زخرفية من الزليج التي تحيل ليس فقط إلى العراقة التاريخية المستمدة من الأصالة المعمارية التي تشكل أحد مكونات الهوية السياسية للملكة، بل تحيل إلى الاستمرارية السياسية الدائمة المستوحاة من هذه الأشكال الدائرية، حيث يرمز الرسم الدائري إلى الديمومة والاستمرارية.
– في حين يرمز العلم الموضوع إلى جانب كرسي الملك إلى تأكيد ما تضمنته بعض الخطب الملكية التي تحيل إلى "ملكية القرب والملكية المواطنة"؛ وهو ما ينعكس من خلال نوعية الكرسي الذي يختلف عن كرسي العرش الذي كان يظهر في الصور الملكية الرسمية السابقة بفخامته التي ترمز إلى العظمة والأبهة السياسية .
– كما أن إظهار الملك مرتديا بذلة عصرية سوداء بربطة عنق سوداء وقميص أبيض يحيل إلى العصرنة والرسمية، بينما تعكس لحية الملك المشذبة وابتسامته الهادئة الإيحاء ببلوغ الملك مرحلة النضج السياسي والدلالة على الحكمة والتبصر.
– بينما التركيز على وضعية جلوس الملك ووراءه كرسي العرش هو علامة على استقرار الحكم واستتبابه.
– أما التركيز على يديي الملك الموضوعتين على ركبتيه، فهو علامة على القوة والمنعة.
وعموما، فالصور الملكية تلعب دورا أساسيا في الحياة السياسية بالمغرب من خلال التأثير على المخيال السياسي للنخب السياسية وكذا عموم المواطنين. فإذا كانت صور الملك محمد الخامس قد وظفت في إطار الصراع بين سلطات الحماية والحركة الوطنية، لتوظف بعيد الاستقلال، كآلية لشخصنة حكم الملك الراحل الحسن الثاني في تدبير شؤون البلاد السياسية والإدارية، فقد تم توظيفها في نهاية عهده لتهيئ الرأي العام لعملية الخلافة على العرش؛ حيث كان المشاهدون المغاربة يلاحظون أثناء النقل التلفزيوني لخطب الملك الحسن الثاني كيف كان يتم التركيز على اللقطات التي يقوم فيها ولي العهد آنذاك سيدي محمد بدفع أو تنحية الكرسي الذي يجلس عليه والده قبل إلقاء خطبة أو بعد إنهائها. وبعد تولي الملك محمد السادس العرش، تم تعليق صورة رسمية لهذا الأخير إلى جانب الصورة الرسمية لوالده في المؤسسات الإدارية العمومية قصد تعويد الأذهان بالتدريج على شخص الملك الجديد كأعلى رئيس لمختلف مستويات وهرميات بيروقراطية المملكة الممتدة والمترامية؛ لكن ضمن استمرارية وتعاقب الحكم الملكي.