تنوير الكتب.. سعد كموني مفككاً آيات الجهاديين
منتصر حمادة
هذا كتاب نُصفنه في خانة الأعمال النقدية لأدبيات الحركات الإسلامية القتالية أو "الجهادية"، والحديث عن كتاب حديث الإصدار للباحث اللبناني سعد كموني، وعنوانه "آيات الجهاديين: قراءةٌ أخرى"، وصدر عن المركز الثقافي العربي، حيث يرى المؤلف، في سياق تقديم الكتاب بأن الحاجة لهذا العمل تكمن في "المخاطر التي أوصلنا إليها الإصرارُ على تقديس ما ليس مقدّساً بالأصل، وانعكست هذه المخاطر دماء وتهجيراً وفقراً وقصوراً حضارياً فاضحاً"، مضيفاً أنه "إذا تفاهمنا أن القارئ لا يقرأ خالي الذهن، وإذ يسجّل فهومَه لما يقرأ؛ إنما يفعل ذلك بتحشيد كل مدّخراته الذهنية، وتوسّلِ كل آلية متاحة له تمكّنه من معاينة النص. وبالتالي يكون قد صادر المقروء، وأسرهُ داخل لغته التي يسكنها مع أبناء زمانه ومكانه. وإذ يصل هذا الأسير إلينا إنما يصل متشكلاً بأسره الذي صنعه له ذلك القارئ، وإذ نقبله كما وصلنا فإنما نكون قد دخلنا معه في الأسر. وهكذا تتأبّد لحظة حضارية، عندما لا تبالي بالمتغيرات الزمانية والمكانية، ومتغيرات ما يدّخر الإنسان في ذهنه من مكانه وزمانه".
جاء العمل موزعاً على أربعة أقسام هي، "الاتباعية بين القرآن الكريم والسنة"، "آية السيف أم آية الرحمة" [وهو الفصل الذي يهمنا أكثر في هذا العرض]، "العلاقة مع المشركين والعلاقة مع أهل الكتاب"، و"السلم والقتال والردّة في القرآن الكريم".
بخصوص المنهج المعتمد في العمل، فهو المنهج التحليلي الوصفي الذي يتوسل الأسلوبية والسياقية الدلالية، حيث اعتمد المؤلف بالدرجة الأولى على التحليل النحوي والصرفي والبياني، مستبعداً المواقف المسبقة والقراءات السالفة، وذاك لأنه يعدّ هذه المنهجية من شأنها المساعدة في فتح مغاليق النصوص لكثرة ما تحفز الباحث على طرح الأسئلة، فكانت وسيلته في تحقيق أهداف الكتاب.
من "أسباب نزول" الكتاب، توقف المؤلف عند آيتين كريمتين يحتجّ بهما السلفيون "الجهاديون" لتبرير عنفهم والجزية ضد أبناء قومهم لاختلاف اعتقادهم ليس إلا، وهما آيتان بالاستناد إلى الفهوم السابقة والتفسيرات المعتمدة، والروايات والأحاديث المصححة وفق أصول التصحيح السنّي تشكلان إحراجاً لكل من يؤمن بشرعة حقوق الإنسان وحق كل إنسان باعتناق الدين الذي يريد، وباللادينية. وهاتان الآيتان هما: "إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله"؛ و"قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب"، معتبراً أنه مما استوقفه أيضاً في خطاب هؤلاء "الجهاديين" الدمويين اعتمادهم القرآن الكريم مرجعيةً لهم في تحديد الموقف من السلم والحرب، وحجةً لقتل المرتد، ووجدت أن اعتمادهم هذا له جذوره الضاربة في التفسيرات السالفة، ما يشكل مناقضة صريحةً للآية الكريمة التي لا تقول "لا إكراه في الدين".
من مُبرّرات العمل أيضاً، أن حياة شعوب المنطقة، كانت ولا زالت أمام ورطة كبيرة، تتمثل في كتلتين صلبتين متماسكتين ومتواجهتين، تطبقان علينا؛ قوام الأولى جملةٌ من العقائد والشعائر والمواقف النهائية بإزاء الكون والإنسان والحياة والموت، تنضاف إلى تلك الصرامة الشديدة الإحكام من العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية؛ وقوام الثانية هي جملة أفكار تناقض الأولى تماماً، وتطلق العنان للشكوك والحريات في التفكير والسلوك، وتتسامح في الحكم على ما يحسب ذنوباً لا تغتفر. وبعد هذه الاندفاعة العنيفة مع الأفكار الوافدة، واعتناق شعوب المنطقة لها بكل ما أوتيت من زخم، ورفضها كل تقليد، وبعد أن شهدنا تداعيات فشل الدولة الوطنية، والعجز عن وقف مفاعيل السقوط المدوي للأحلام، واندفاعة الأفكار والمواقف المتطرفة في رقعة واسعة من العالم، بتنا نرى أفظع الجرائم والتخريب باسم الدين والقرآن؛ وصرنا أمام ورطة جديدة، لا يمكن لهذه الأحزاب المهزومة أن تتصدى لها بكفاءة، فكانت من نتائج ذلك، فشل حركة النهوض العربية، وصلت إلى حال من الانسداد الفكري والثقافي الذي يوحي بأن مستوى الذكاء العربي قد وصل إلى أدنى مستوى، وبرزت حركات تتكلم باسم الإسلام فتعزز الفساد الفكري، وتقطع العلاقة كلياً مع مفهوم المواطنة العصري، وتنشد إقامة سلطات مقدسة تتنافى مع الحاجة إلى الحرية كي تبدع الأجيال الجديدة نظرة أو نظراتٍ جديدة. كما التزمت بعض الشخصيات والأحزاب التقدّمية طريق الدفاعِ المستميت عن الأنظمة بحجة التصدي للإرهاب، ووقف تداعي الحياة الاجتماعية العربية. حتى بات المشهد العربي مشهداً محبطاً لا يملك الحليم فيه خياراً يمكن السكوت عليه.
تأسيساً على تلك الإشكاليات بأسئلتها المعقدة، كانت التفاتة المؤلف إلى القرآن الكريم، يتناول آياته التي تعتمدها الحركات الجهادية العنيفة، منتهجاً الوصف والتحليل الدلالي والأسلوبي، بهدف الوقوف على منطوياته، بعيداً من التأويلات السائدة، والتمذهب المسبق، مستفيداً من منجزات العلوم اللسانية الحديثة، والقديمة، ومن انفتاح الأفق العلمي الحديث على كشوف لا ينبغي لها أن تنتهي.
بالنسبة للمصادر والمراجع المعتمدة في الكتاب، فهي بعد القرآن الكريم، المعاجم وأمّهات كتب النحو والصرف، إضافة إلى بعض كتب البيان وفلسفة اللغة التي أسعفت كثيراً في تعقب المعاني والوقوف على الممكن منها، إضافة إلى مراجع كان لا بد له من الاطلاع عليها وإن لم يأخذ منها المؤلف شيئاً، مثل كتب التفاسير الشهيرة عند السنة والشيعة والإباضية والمتصوفة.
يقول سعد كموني أنه وجد أن حجة الدعاة إلى العنف تقوم على مبدأ أساسي هو طاعة الرسول وأولي الأمر، وهذا يجعل لهم سلطة بلا منازع، فتساءل الكاتب: "كيف يمكن للقرآن الكريم، أن يأخذ على العرب اتباعهم ما ألفوا عليه آباءهم دون تبصر منهم فيما لو كان هؤلاء الآباء يعقلون أو لا يعقلون، يهتدون أو لا يهتدون! مضيفاً أن هذا الأمر دعاه إلى تناول الآيات التي تطلب الطاعة والاتباع ودرسها في سياقها النصي بعيداً من أسباب النزول وآراء المفسرين والفقهاء وسواهم، دراسة أسلوبية دلالية نحوية صرفية وبلاغية، بهدف الوقوف على اليقين الممكن من هذه الآيات.
والمؤلف، كغيره من بعض أعلام الساحة، أدرك منذ نشأته الأدبية والفكرية أن سبب هزيمة شعوب المنطقة في المعارك الحضارية التي نمر منها اليوم، لم تكن عسكرية بل فكرية. وتعزز خوفه المصيري عندما رأى إسرائيل تطور أسلحتها الفكرية، فيما المثقف العربي غارق في ضبابية البحث في أجناس الملائكة، فلجأ إلى الدين، لأنه المحرك الأساس للنهضة المرجوة، محاولاً عبر دراسة الخطاب القرآني الوصول إلى عمق المأساة: انحراف المفكر العربي عن مبادئ الخطاب القرآني، وفهمه بصورة خاطئة، لسببين لا ثالث لهما: جهل الدين أو تجاهله.
نأتي لبعض مضامين الفصل الثاني من الكتاب، وجاء تفاعلاً مع الخطاب الديني الحركي الصادر عن الجهاديين التابعين لمشروع تنظيم "داعش"، ومنهم أبو محمد العدناني، وإن أكد المؤلف أن هذا الفصل لا يتوخى تحليل أفكار العدناني وأمثاله، فهذه الأفكار ليست جديدة، و"السلفيّة الجهادية" أصلاً، تقوم على رفض الدعوة السلمية، كما أن هناك كثيراً من العلمانيين كانوا منذ أواسط القرن الماضي يؤمنون بالكفاح المسلح حلاً وحيداً لتحرير الأرض والإنسان. ومناقشة هذه الأفكار وتسخيفها، لا يجدي بشيء، وقد كان رفضَها العديد من المثقفين المتدينين وغير المتدينين. ولكنّ الأمر الآن بات ملحاً، ويتطلب من الباحثين المعاصرين التصدي بدقةٍ علمية؛ لأنّ المسألة لا تتعلّق بموقف تقتضيه الظروف الراهنة، بل ينبغي تعقب الحقيقة، تحت ضغط جملة أسئلة محرجة، يمكن حصرها بواحد أو اثنين، هل الإسلامُ حقيقةً دين السيف والإكراه؟ هل الشرك والكفر والمغايرة سبب للقتل؟
للتعامل مع هاتين الإشكاليتين توخى المؤلف في الفصل الثاني تناول السند القرآني الذي اعتمدته "السلفية الجهادية"، والعدناني واحد منها، بل كان الناطق الرسمي باسمها حتى مقتله في 30 غشت 2016، وخاصة أن تصريحاته، واستنكار العديد من العلماء المسلمين لها، قد فتح شهية الكثيرين شرقاً وغرباً للتطاول على الإسلام والقرآن والتاريخ الإسلامي من دون أي سند علمي، أو أي قراءة علمية للنص الديني وبخاصة النص المؤسِّس، كما وجد المؤلف أن ردود المسلمين على استغلال السلفيين الجهاديين لبعض الآيات القرآنية، ردوداً غير علمية.
خلُص المؤلف إلى آية السيف الشهيرة في سورة التوبة، والتي اشتغلت عليها العديد من الأقلام البحثية، من عدة مرجعيات (اشتغل عليها الراحل محمد أركون كثيراً، في سياق إبطال مسلمات تعامل الخطاب الإسلامي الحركي مع الآخر)، إلى مجموعة خلاصات، نورد بعضاً منها في نقاط مقتضبة:
ــ البراءة من الله ورسوله لم تشمل كل المشركين، بل من اختُصوا بمعاهدة المؤمنين بالله ورسوله.
ــ السياحة في الأرض أربعة أشهر دلالة على أولوية السلام حتى في ظروفٍ تقتضي الحرب.
ــ الشرك ليس سبباً للبراءة من المشركين بل نقضُهم العهد هو السبب. إضافة إلى أنه من التقوى الوفاء بالعهود، والعدل في عدم المساواة بين المشركين الناكثين والمشركين الحريصين على العهد، فالتقوى هي صيانة النفس عن إغواء الجور.
ــ لا تصلح الآية الخامسة من سورة التوبة للاستدلال بها على وجوب قتل تارك الصلاة، لأن الصلاة في هذه الآية لتعطيل قتل الناكثين للعهد، وليست رياء؛ فإقام الصلاة تعني المداومة عليها، فلو كان القتل حكم تارك الصلاة لكفت الصلاة عن تأثيرها في تعديل سلوك الناس بالانتهاء عن الفحشاء والمنكر، وصارت مجرّد غطاء لستر النفاق. إضافة إلى وظيفتها النحوية المانعة لهذا الاستدلال.
ــ تنتهي الآية بـ"إنّ الله غفور رحيم" وإيرادها في اختتام آية تنطوي على طلب القتل والأخذ والحصر والترصد، دلالةٌ على أن معرفة الله بهذه الأسماء إنما هو الأمر المعوّل عليه، والله يقدم نفسه غفوراً رحيماً للخلق أجمعين، لا لنقتل المذنبين والعصاة أو المختلفين عنا، بل لنجاهد أنفسنا في كل وقت بنشر ثقافة المغفرة والرحمة. أي ثقافة التسامح.
ــ إطلاق "آية السيف" على هذه الآية، هو تطاول على النص القرآني، وبخاصة أن كلمة سيف لم ترد في القرآن قط. فهي إن كان لا بد من تسمية لها فإنما الأليق بنا دلالة على وعينا؛ أن نقول "آية الرحمة".