صلاح بوسريف يكتب: انْهِيار المُجْتمَعات بانْهِيار قِيَمِها
د. صلاح بوسريف
إن أخطر ما يمكن أن يؤدي إلى انهيار المجتمعات وتفَتُّتِها، هو انهيار قِيَم هذه المجتمعات. فلا وجود لمجتمعات بدون قِيَم، وبدون إنسان يُكَرِّسُ هذه القِيَم، ويحرص على وجودها واستمرارها، وأيضاً تطويرها وتوسيع مساحاتها، في كل ما يمس المجتمع والإنسان معاً.
بات، اليوم، ظاهراً للجميع، أن تحوُّلات كبيرة مَسَّت الإنسان، ومَسَّت المجتمعات كاملةً، مع ظهور العولمة، وما رافقها من ظهور التقنية، ووسائل التواصل الحديثة. لا شيء عاد بعيداً، بل إننا أصبحنا نصل إلى كل شيء، متى شئنا، كما أنَّ كل شيء بات يصل إلينا ويقتحم مجالات عيشنا ووجودنا اليوم، بإذننا، وبغير إذن منا. فما كُنَّا نصل إليه بالأمس، بعد بحث ووقت طويليْن، اليوم اخْتَصَرْنا الزمان والمسافة، واكْتَفَيْنا باستعمال هوتفنا وحواسبنا أو ألواحنا الإلكترونية، لبلوغ ما نريده وما لا نريده، لا فرق، ما مادامت المعلومات أصبحت سائلة، مثل نهر عظيم، تجرف كل شيء في طريقها، ومعه تجرف الكثير من عاداتنا وسلوكاتنا، ومن القيم والمباديء التي نشأنا عليها.
ولعل أخطر ما يمكن لهذه التحوُّلات الكونية الكبرى أن تجرفه فينا، هو ما يَخُصُّنا نحن، كمجتمع، وثقافة، ومجال حضاري، كان إلى وقت قريب، له عمرانه، وله لغته، وله ما يعتقد أنه دمه الذي لا يلتبس بغيره من الدماء. فمن يتأمَّل سلوكاتنا، في المجتمع، سيرى، دون أي جُهْد أو عناء، كيف أنَّ المدرسة، مثلاً، انْهَارَتْ، وهي في طريقها إلى التَّلاشِي، بالمعنى الذي يجعل الشارع، ينوب عنها في خلق القِيَم، وفي نشرها وتعميميها، بدليل أن بعض من سَعَوْا إلى تحويل لسان المدرسة، من لسان عربي فصيح إلى لسان مغربي دارج، كان هدفهم، هو إخراج المدرسة إلى الشارع، واسْتَهَانُوا بخطورة ما دَعَوْا إليه، بل ولم يكونوا يعرفون المآل الذي يَجُرُّون إليه المدرسة، ويَجُرُّون إليه المجتمع، خصوصاً في ما يمس قِيَم هذا المجتمع، والعمل على تكريس وتوسيع هذه القيم. فهم لم يُمَيِّزُوا بين الشارع والمدرسة، وبين القسم والحافلة أو المقهى، أي بين فضاء التعلُّم والعلم والمعرفة، وفضاءات الكلام العام، الذي هو كلام لا يخضع لمنهج، ولا لبناء، وما يروج فيه من أفكار، هي فِكْر العامَّة، لا فكر المُتعلِّمِين أو من يملكون خبرة وتجربة ومعرفة بما يمكن أن يدور حوله الكلام، من أفكار وموضوعات وقضايا وأسئلة. هنا، بالذات، يكون الخطر، أي حين نردم المسافة بين المدرسة والشارع، أو حين يصير الشارع هو ما يحكم المدرسة ويقودها، وليست المدرسة من تنزل إلى الشارع، تقوده وتُوَجِّه فكرَه وسلوكه، وتعمل على تعميم القيم فيه.
حين أتحدَّث هنا عن القِيَم، فأنا أتحدَّث عن قِيَم المواطنة، وعن قِيَم التَّسامُح، وقِيَم العلم والمعرفة القائمين على التوافق والاتفاق، وأيضاً على الاختلاف في الرُّؤَى والتصورات، وفي زوايا ووجهات النظر، فالبشر ليس قطيعاً، وليس آلةً تُنْتِجُ نفس الفكر ونفس اللغة ونفس الرموز والدلالات، الإنسان كائن مُبْدِع بطبيعته، يبتكر ويُضيف، ويقترح الأفكار الجديدة المُغايِرَة، ما يضمن اختلاف ثقافة وقِيَم مجتمع عن ثقافة وقِيَم مجتمع آخر، وما يجعل الإنسان المغربي، في لباسه وطعامه، وفي أعياده وحفلاته، وفي عمارته وغنائه، وفي رقصه ورسمه، وتأثيته لبيته ومدينته، هو غير الإنسان المُجَاوِر له جغرافيا، مهما كانت طبيعة الجوار الجغرافي والثقافي، لأنَّ كل مجتمع، هو مجتمع بما يخلقه ويبدعه، وبما يبتكره من مُنْجَزاتٍ، يكون معروفاً بها أينما حلَّ وارْتَحل، مثل العلم الوطني، الذي هو علم لا يتكرَّر، ولا يمكنه أن يكون عَلَم بَلَدَيْن في نفس الوقت، لأنَّ العَلَم وَطَنِيّ، وهو حامل رموز وتعبيرات، هي جزء من الوطن الذي يدلُّ عليه.
ما أن نترك قِيَمَنا تلتبس بغيرها، أو تذوب في قيم مجتمعات أخرى، ولا تستطيع تأكيد وجودها باعتبارها قِيَم هذا المجتمع لا غيره، رغم الحوار الذي نُؤْمِن به مع كل الشعوب والثقافات والحضارات واللغات، حتَّى نضيع في غيرنا، وتضيع هويتنا وانتماؤنا، وكل ما يَخُصُّنا، وما يعنينا، أو ما به نكون نحن، في مجموع قِيَمِنا، وأبرزها قيمنا الثقافية، التي هي قيم المجتمع، وقِيَم الإنسان الذي هو هذا المجتمع، في كل مظاهر وجوده وحياته اليومية.
نحتاج أن نُعِيد النظر في دور المدرسة في وجودنا، وما تمثله من معنى في وجودنا، ودور الإنسان، وعلاقة المدرسة بالأسرة والشارع، وبالإعلام، كون المدرسة ذات علاقة بالإنسان، كما أنَّ الإنسان، في طبيعته وجوهره، هو المعني الأول والأخير بكل ما يقع من تحوُّلات، أو هو من تخترقه هذه التَّحَوُّلات، وتعمل على تغييره وتبديله، بل وقلب وجوده وكيانه. كما نحتاج أن نُعيد وضع التقنية في سياق المدرسة والإنسان، بما يخدم المدرسة والإنسان، لا بما يُنْهِيهما ويجعلهما تابعيْن للآلة، أو محكوميْن بهذه التحوُّلات، أعني ما يأتينا من غير مائنا وهوائنا. فهذا هو مصدر خطر تلاشينا في غيرنا، وضياعنا فيه، وهذا، في ما لاندركه، هو أخطر أشكال الاحتلال، احتلال العقل والفكر والخيال والوجدان، أي ما يمس الإنسان فينا، إذا ما نظرنا إلى الإنسان باعتباره، في نهاية هذا المَطَبّ الخطير، هو قيمة القِيَم.