الإسلام والمشترك الإنساني بأعين عبد الله بوصوف
منتصر حمادة
من تبعات اعتداءات 11 شتنبر 2001، أنها أعادت النقاش حول العديد من القضايا والملفات، ومنها الموضوع الذي يهمنا أكثر في هذا العرض، أي موضوع المشترك الإنساني، مع هذه الوقفة الأولية في كتاب يحمل عنوان "الإسلام والمشترك الإنساني"، لمؤلفه عبد الله بوصوف، أمين عام مجلس الجالية المغربية بالخارج، وصدر العمل عن دار "منشورات ملتقى الطرق" المغربية، وجاء في 121 صفحة (مع الإشارة إلى أنه صدرت الترجمتان الإسبانية والفرنسية للعمل)، أما غلاف واللوحات التشكيلية التي جاءت في الكتاب فتعود لإدريس رحاوي.
جاء الكتاب عبر مسح تاريخي لأربعة عشر قرنا من تاريخ المسلمين ليبين أن عنصر التسامح أو السماحة الإسلامية، بقي عنصرا ثابتاً منذ دولة المدينة التي أرست قواعدها وثيقة المدينة، التي أسست العيش المشترك والمواطنة على أساس تعاقدي والتي أكدت أن المسلمين دينهم واليهود دينهم ولكل منهما واجبات وحقوق وأنهم يمثلون أمة واحدة.
وحسب الكتاب، فقد حاول المسلمون الحفاظ على مبدأ التسامح كما وقع في الحروب الصليبية بشهادة مؤرخين غربيين في حق صلاح الدين مروراً بابن تيمية في رسالته القيصرية والأمير عبد القادر ومحمد الخامس عندما رفض تسليم اليهود إلى حكومة فيشي، وأكد المؤلف أيضا أن عنصر السماحة لم يغب وبقي ثابتا عبر هذا التاريخ الطويل منذ الأمويين والسياسيين مراراً بالدولة العثمانية وصولا إلى الدولة الحديثة في النموذج المغربي.
بالنسبة لفصول الكتاب، فجاءت عناوينها كالتالي: الإسلام والمشترك الإنساني: مقدمة عن صور التعايش في الإسلام؛ الشمولية والإحاطة من أهم المرتكزات في نظرة الإسلام للتعايش؛ التعايش في الإسلام.. بناء علاقات الإحسان وتحقيق الخير الإنساني؛ العدل عماد الدين وشرط قيام الاستخلاف في الأرض؛ العدل مع غير المسلمين.. حتى يكتمل التقوى؛ القيم القرآنية تأمر بالعدل المطلق الذي لا يميز بين الناس؛ وثيقة المدينة.. نموذج لثقافة التعايش في الإسلام؛ احترام الإسلام لخصوصيات الديانات الأخرى وتقديس أماكن عبادتها؛ التعارف..بناء العلاقات على أساس الحوار والتبادل المشترك للمعرفة؛ الرسالة القبرصية.. درس في الحوار بين الأديان والانفتاح على الآخر؛ مظاهر تسامح الأمويين مع أهل الذمة واحترامهم لمعتقداتهم؛ صلاح الدين الأيوبي.. الشجاعة ونبل الأخلاق في خدمة القيم الإنسانية المشتركة؛ الدولة العباسية.. أرضية خصبة للتعايش بين المسلمين وأهل الذمة؛ الإمبراطورية العثمانية.. نموذج للتعايش في ظل التنوع الديني واللغوي؛ التسامح الديني.. هكذا ضمنت الدول الإسلامية لأهل الذمة ممارسة شعائرهم؛ الأندلس.. تسامح الإسلام أطلق دينامية مجتمعية شارك فيها الجميع؛ هكذا حول المجتمع الأندلسي تنوعه الإثني إلى رافعة للتطور الحضاري؛ كيف استطاع الأندلسيون خلق آليات للتواصل تلغي العدوانية والإقصاء؟؛ المسلمون عناصر سلام وازدهار سواء كانوا أغلبية أم أقلية؛ قيم التسامح والعيش المشترك في المجتمع المغربي؛ المكون اليهودي.. علامة بارزة على الاحترام والتعايش بين الأديان بالمغرب؛ التسامح في الإسلام. لحظات للتأمل في التاريخ من أجل إصلاح أعطاب الحاضر.
يرى المؤلف أن القرآن الكريم أولى لمسألة التأسيس لطبيعة العلاقة مع الآخر، معتبراً أن الناظر في النتاجات العلمية لعلماء الأمة الإسلامية، بخصوص أصول وأسس التعامل بين الناس، يجد تقريرهم لمجموعة من الأصول والقواعد، التي يمكن أن تبنى عليها وتتفرع عنها جملة منظومة القيم المشتركة، الصالحة لأن تكون قواسم كلية وأصولا عامة للعمل الإنساني المشترك، الملبي الحاجات الإنسان الفطرية؛ وهي مبادئ وقيم نابعة من مرجعية الوحي: قرآنا وسنة، ومن سيرة الرسول وأصحابه الذين استوعبوا وتمثلوا التوجيهات الربانية بهذا الخصوص.
إن هذه القيم المشتركة، يضيف بوصوف، تعرف الإنسان بحقيقته، وبالغاية من وجوده، وأنه مخلوق لله تعالی خلقه وكلفه للقيام بواجب العبادة والخلافة في الأرض، ويعرفه بحقيقة الخالق وبصفاته وبعلاقته بالمخلوقات، وعلى رأسها من هم من جنسه، كما يعرفه بحقيقة الكون، وأن الإنسان في هذا الكون مخلوق مسخر لحاجات الإنسان نفسه، ولتحقيق منافعه ليستفيد منه، وينعم بخيراته، هذا فضلا عن التعريف بالمصير الذي ينتهي إليه، وبالحياة الآخرة التي تنتظره.
ومن ثم، فإن القيم الإنسانية المشتركة التي يدعو إليها الإسلام ضرورية في الجانب التشریعی للدين، كما في الجانب الاعتقادي والسلوكي للإنسان، فهي مؤسسة لفقه التعايش الإنساني، باعتبارها ضابط تنظيم مسيرة الفرد والمجتمع في شتى شؤون الحياة، وهي بمثابة تشريعات عملية ترسی قواعد العدالة والمساواة والحرية والتكافل الاجتماعي، وتبين حقوق الأفراد وواجباتهم؛ فبغير تلك التشريعات الخاصة بالمشترك الإنساني، لا تستقيم حياة الأفراد والجماعات، وذلك لفقدانها التشريع والمنهج، بما أنهما منطلقان لا غنى عنهما لتنظيم حركة الإنسان في الحياة، وضبطها في إطار تعدد الثقافات والمعتقدات.
تفاعلاً مع زيارة بابا الفاتيكان الأخيرة للمغرب، في 30 و31 مارس الماضي، نستحضر هذه الإشارة من الكتاب، ومفادها أن الإرث التاريخي الذي يتمتع به المغرب في احترام الأديان وحفظ حقوق الأقليات، جسده على الصعيد التشریعی دستور 2011 الذي جاء ليؤكد بالملموس مدى التزام الدولة المغربية بواجبها التاريخي وتشبثها بمهمتها الحضارية في احترام الأديان وتعزيز التسامح، وأصبحت دیباجته مرجعاً أساسياً في هذا الاختيار من خلال التأكيد على أن المملكة المغربية متشبثة بصيانة تلاحم وتنوع مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية – الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية؛ مما لا يدع مجالا للشك أمام توجه الدولة الثابت وحرصها على الاعتراف بمكوناتها وصيانة الاختلاف داخل منظومتها المجتمعية؛ فالمغرب يعد من الدول القلائل التي تنص دساتيرها على التعدد والاعتراف بالروافد بمختلف تشعباتها، وهو التوجه الذي يزيد من توطيده حرص أمير المؤمنين على إيلاء عناية خاصة للمغاربة غير المسلمين، وعلى المحافظة على موروثهم، وضمان حقهم في ممارسة شعائرهم الدينية، من دون قيد أو تضييق.
إن هذا التعدد الديني الذي يتمتع به المجتمع المغربي، حسب المؤلف، أسهم بشكل واضح في إغناء الحضارة المغربية، وحصن المجتمع من نعرات التفرقة والكراهية والعنصرية، وخلق التربة الخصبة لزرع بذور الاحترام بين الأديان، والتسامح والعيش المشترك داخل المجتمع الواحد.
نترك مسك الختام في هذا العرض لهذه الإشارة، وجاءت في صيغة دعوة صريحة لعبد الله بوصوف لكي ننخرط جميعاً في نشر ثقافة مواطنة كونية من أجل المحافظة على البيئة بكل أبعادها، وصد كل أشكال الإضرار بها وإلحاق الأذى بالعيش الكريم للإنسان، بقدر حاجتنا أيضاً إلى نشر فكر التسامح والعيش المشترك، لعل هذا الخيار يساهم في إيقاف إراقة المزيد من الدماء وتهديد الحياة الإنسانية، وبناء مجتمع يعم فيه الاحترام والوئام؛ لأن الإنسانية جمعاء مرتبطة مصير واحد، وكل ما من شأنه تهديد أمن وسلامة مجموعة من الأفراد هو في الحقيقة خطر يهدد الناس أجمعين.