الرأي

صلاح بوسريف يكتب: حَتَّى لا يأْكُلَنَا الطُّوفَان

صلاح بوسريف

مَا يَجْرِي في لُبْنانَ، وما جَرَى فِي غيرها من البلاد العربية، من احتجاجات وانتفاض ضد السُلَط المركزية الحاكمة، بقدر ما هو تعبير عن غضب عارم، ودفاع عن الكرامة والحق في العيش والمُساواة، بقدر ما هو تعبير عن انهيار الأحزاب والنقابات، التي أصبح الشارع أكبر وأوسع منها، ودورها بات غير ذي جدوة، لأنها لم تكن تدافع عن مصالح الفئات المغلوبة والمقهورة، بل كانت ذَيْلِيَّةً تابعة، تخدم مصالح الحاكمين، وأصحاب المال، من المُتَنَفِّذِين، ممن اسْتَنْزَفُوا عَرَقَ الشَّعْبِ، وأَكلوا خبزه وقُوتَه، واستولوا على خيرات البلاد وثرواتها، سخَّرُوها لأغراضهم الخاصة، دون اعتبار للمواطنين الذي هم الدولة، وهم الشعب، لأنَّ هذه الآحزاب والنقابات، بكل طوائفها، لم تَعِ قولة الكواكبي، إن الشعب يمكنه أن يوجد بدون حاكم، والحاكم لا وجود له بدون شعب.

لعلَّ واقع الحال، يفضح ما يجري في مؤسساتنا، وفي أحزابنا ونقاباتنا من تواطؤات، بل باتت هذه الأحزاب والنقابات، تتغذى من شقاء وتعب وفقر وبؤس الشُّعوب. فهي مُفْتَرَضٌ فيها أن تكون إلى جانب العُمَّال والموظفين، وإلى جانب المُعْوِزِين والشُّبَّان، ممن لا يجدون شغلاً، ويغلبهم اليأس، إلى الدرجة التي يتركون معها الوطن، ذاهبين إلى أي مكان فيه خبز، ولو كان جحيماً. الشعب بادر إلى الاحتجاج، في كل الجغرافيات العربية التي بلغها السَّيْلُ، ولم يعُد في حاجة إلى من يمسك يده ويأخذه إلى الشارع ليحتج أو يغضب ويتمرد ويثور، فالسَّيْلُ بَلغ الزُّبَى، ولم يعد الشعب يثق أو يؤمن في أي تنظيم يدَّعي أنَّه معه، أو يدافع عن مصالحه. وهذا يقتضي أن تُراجِع الدولة، أولاً، حساباتها، وتعمل على تحرير الأحزاب والنقابات من سلطتها، فهي أصبحت مثل سلاح فاسد، انتهت مدة صلاحيته، ولم تعد تفيد في حل مشكلات الدولة، ولا في حل مشكلاتها هي أيضاً، لأنها أحزاب ونقابات بدون إرادة شعبية، بل إن الشعب انفصل عنها، ووضعها على الرصيف ليحتل هو الشوارع والفضاءات العامة.

كثيرة، إذن، هي المفاهيم والنُّظُم التقليدية التي علينا مراجعتها، وإعادة التفكير فيها، بتفكيكها، والنظر في أعطابها، في ما لم يعد فيها قابلاً للحياة، لأن المفهوم والنظام، ليسا أبداً ولا أزلاً، بل هُما يقبلان العملَ لزمنٍ، ثم يصيران إلى زوال، بحكم المتغيرات التي تجري في الواقع، وبحكم تطور المعارف، وتجدُّد الرؤى والأفكار، وما يطرأ من ابتكار في اللقاء والتواصل، وتعبئة الناس وإعدادهم لِلْمُلِمَّات، كما يقول القدماء.

مَن يبقى راكبا نفس القارب، دون أن يدرك خطر اللُّجِّ، وما يجري في البحر من رياح، حتماً سيغرق، فالطوفان، حين يهب، يجرف كل شيء يجده في طريقه. هذا ما لم يتعلمه الحاكمون، ومن بيدهم إدارة الشعوب، فالشعوب تحرَّرت من قهر السلطة، ولم تعد تخاف، وحتى إذا ما استبد بها خوف ما، فهو حتماً خوف عابر، أو هو بمثابة البركان الهاديء الذي يتفاعل في أعماقه الدفينة، وانفجاره حين يحدث، يكون جارفاً، لا يترك ولا يَذَرُ، كما يُقال.

درس الجزائر، والعراق، ولبنان، والسودان، وتونس، وما وصلت إليه سوريا وليبيا، هو درس ليس للشُّعوب، مهما كانت النتائج والتبعات، بل هو درس للحاكمين، لمن يتعنَّتُون في الحكم بالجَبْر والقَهْر، وبالشطط في استعمال القوة، وفي تجويع الشعوب ليعيشوا هم في بذخ وثراء، فهؤلاء هم من كتب عنهم التاريخ يفضح غباءهم، وما أوْصَلونَا إليه من تخلف وخنوع، ومن هزائم، لا يد للشعوب فيها، فالتاريخ لا يكتبه الحاكم، التاريخ تكتبه الشعوب، وهو قادر على غربلة الزيف من الحقيقة والواقع، حبره لا يتوقف عن الكتابة والتدوين، وعن كشف ما يجري من ضَيْمٍ وقهر في نفوس الناس، وما كان يشتعل في جوانحهم من نار.

لا وقت لنا لنبقى كما نحن، نعيش في قهر وفقر وتخلف وهزيمة، الوقت هو وقت عدالة اجتماعية، ووقت مساواة، وكرامة، وتوفير الماء والهواء بالقدر الذي يجعل الشعوب تتنفس بحرية، تبني، وتخلق فرص الرَّفاه، وتشارك في تحصين الأوطان من الجهل، ومن البؤس التي سرى في دمائها، وكأنه قدر، لا مفرَّ منه. كل شيء من صنع الإنسان، وعلى الإنسان، أينما كان، وكيفما كانت طبيعة المسؤولية التي يتحملها، أن يعمل من أجل الجميع، لا من أجل فئة، أو جماعة، أو طائفة، وكأن السواد الأعظم من الناس، مجرد فئران تعيش في مجاري المياه العادمة، سَحْقُها بالأقدام، خير من بقائها على قيد الحياة!!!

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ستة عشر − 7 =

زر الذهاب إلى الأعلى