الدين والحياة

القرآن الكريم والمستشرقون ومفكرو الغرب

أيَّد الله أنبياءه بالمعجزات التي تُظهر صدق دعوتهم، والبراهين التي تدل على عظيم أمرهم الذي جاؤوا به، لكن هذه المعجزات التي أُعطَوها كانت محصورة في أزمنة معينة وأوقات محددة تنقضي بانقضاء أنبيائها، إلا القرآن الكريم؛ فهو المعجزة الباقية إلى يوم القيامة، التي جاء بها نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، والتي تحدى الله بها العرب والعجم أن يأتوا بمثله أو بسورة واحدة تضاهيه أو تماثله، وجعل هذا التحدي قائمًا إلى يوم القيامة، فلما لم يستطعِ العرب في زمن النبي عليه الصلاة والسلام أن يأتوا بآية واحدة، وهم أهل البلاغة والفصاحة، وأُنزل بلسانهم – دلَّ ذلك على عظيم قدره، ورفعة شأنه بين الكتب جميعًا، والسر في ذلك أن الله تعالى أودع فيه من المعجزات العظيمة التي يحار العقل، ويعجز اللسان عن الإتيان بمثلها؛ فهو كتاب معجز في نَظْمِه وبلاغته ودقته، والعلوم الكونية التي تحدث عنها، التي لم يسبق إليها أحد قبل أن ينزل القرآن، وهذا ما جعل العلماء والمفكرين يقفون أمامه مسلِّمين بأنه ليس من صنع البشر، أو اختراع نبيٍّ أُمِّيٍّ لا يقرأ ولا يكتب، بل يدل هذا على أنه كتاب منزل من عند الله تعالى.

ومما يتميز به القرآن الكريم أن الله تعالى جعل فيه الخصائص العظيمة، والفوائد الروحية الجليلة التي تتحقق عند قراءته والتأمل في آياته؛ فهو يأخذ القلوب، ويسلب الألباب بمجرد سماعه يُتلى، وعندما تُرتَّل آياته لأول مرة، فتذهل الآذان من سماعه، وتقشعر الأبدان عند قراءته؛ قال تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23].

وهذا السر الذي أودعه الله في هذا الكتاب المنزل اعترف به كثير من المفكرين الغربيين المعاصرين الذين لا يدينون به، أو يؤمنون بقدسيته، ولكن بلاغته وقوة تأثيره في القلوب، وتحديثه عن حقائق علمية وكونية لم تُكتشف إلا في مرحلة متأخرة من نزوله، وتحتاج إلى بحث وأجهزه لا يمكن أن تتوفر في ذلك العصر وتلك الحقبة – هي من جعلتهم يعترفون بإعجازه، وقوة تأثيره في حياة أتباعه، وسبْقِه في تفسير كثير من مظاهر العلوم وحقائق الكون، وقد تطرقوا لذلك في كتاباتهم وخطاباتهم في المؤتمرات ومراسلاتهم؛ حيث بيَّنوا بعض المميزات الكثيرة التي يتميز بها القرآن الكريم، ما يجعله الكتاب الوحيد الذي حاز على اهتمام مفكري العالم ومثقفيه في المشرق والمغرب؛ يقول المستشرق الفرنسي (ريجيس بلاشير): "قلما وجدنا من بين الكتب الدينية الشرقية كتابًا شغل بقراءته أدبنا الفكري، أكثر مما فعله القرآن".

والأوصاف التي وصفوه بها تدل على أهمية القرآن الكريم في حياة البشرية جميعًا، وتمحورت هذه الأوصاف في أنه:

1- قوي التأثير في حياة المسلمين:

فرسائله تتمحور في أنه لا يمكن محاربة المسلمين والتغلب عليهم ما دام القرآن فيهم يُتلى، والمصحف أمامهم يُقرأ، وقد اعترف بهذه الحقيقة وزير المستعمرات الفرنسي (لاكوست)؛ فقد قال حين عجز عن فَرْنَسَةِ الجزائر بعد احتلال دام أكثر من قرن من الزمان، استخدموا فيه كل الطرق والوسائل في تغيير هُوِيَّةِ هذا الشعب المسلم الجبار: "ماذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا؟"؛ فهو أقوى في تأثيره من كل ما عندهم، فما دام هذا القرآن حيًّا في قلوب المسلمين، يُقبلون عليه قراءة وحفظًا ودراسة، ويتحاكمون إليه في جميع شؤونهم – فهم في حصن من كيد الأعداء والمتربصين.

2- الرباط الوثيق والجامعة التي تجمع المسلمين:

فالقرآن في نظر هؤلاء المفكرين الغربيين هو الجامعة التي يجتمع حولها المسلمون، وهو الرباط الوثيق الذي يربط بينهم، فأينما يمَّمت وجهك، وجدت القرآن يتلوه المسلمون على اختلاف لغاتهم وتباعد بلدانهم، فلا يوجد كتاب على الأرض يُقرأ كما هو الحال في القرآن الكريم؛ فهذا (لويس سيديو) يؤكد ذلك فيقول: "مما يجدر ذِكْرُهُ أن يكون القرآن بين مختلف اللغات التي يتكلم بها مختلف الشعوب في آسيا حتى الهند، وفي إفريقيا حتى السودان – كتابًا يفهمه الجميع، وأن يربط هذه الشعوب المتباينة الطبائع برابطة اللغة والمشاعر".

3- كتاب حوى مختلف العلوم:

تكلم القرآن الكريم عن كثير من الحقائق العلمية والمظاهر الكونية التي لم تُكتشف إلا في وقتنا الحاضر، وقد اهتم القرآن الكريم بالعلم، ورفع من شأن العلماء في كثير من آياته؛ دلالة على أهمية العلم في الإسلام ومكانة العلماء؛ يقول المستشرق (هرتوبك هير جفلد): "ليس عجيبًا أن نقول بأن القرآن تطرق إلى موضوعات: السماوات والأرض، والحياة والإنسان، والتجارة ومسائل المعاملات وغيرها؛ لأن القرآن هو مصدر لجميع العلوم، كما أن النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما كان يوجه الأنظار إلى الآيات القرآنية التي تحث على مراقبة حركة السماء، بل إن بعض الآيات القرآنية كانت تدعو إلى التعاون في طلب العلم، مما أحدث في المستقبل تحولًا كبيرًا في عالمي: الطب، والعلوم الطبيعية"، ويقول البروفسور (يوشيودي كوزان) مدير مرصد طوكيو نقلًا عن كتاب (إنه الحق): "إن هذا القرآن يصف الكون من أعلى نقطة في الوجود… إن الذي قال هذا القرآن يرى كل شيء في هذا الكون، وكل شيء مكشوف أمامه".

4- الكتاب الذي يحفظ وحدة المجتمع:

ففي القرآن من التعاليم الكثيرة في كيفية بناء الأسرة، ومعاملة الأبناء، وبيان العلاقات المختلفة بين الله والناس، وبين البشر أنفسهم، فكل ما يحتاجه المجتمع ليعيش في سعادة جاء القرآن لبيانه، والاهتمام به، والحث عليه؛ يقول (ويل دورانت وقد وُلد في سنة 1885): "إن السلوك الديني في القرآن يشمل السلوك الدنيوي أيضًا، وجميع الأمور قد جاءت من قِبل الله عن طريق الوحي… يحتوي قوانين من الأدب والصحة، والزواج والطلاق، والمعاشرة مع الأبناء والحيوانات والعبيد، والتجارة والربا، والدَّيْن والعقود والوصايا، والصناعة والثروة، والجزاء والحرب والسلم، إن القرآن يعطي عقائد سهلة بعيدة عن الإبهام الذي يدخل في النفوس البسيطة، ويحررهم من العادات المذمومة كعبادة الأصنام والكهانة، هو القرآن الذي يحكم أصول نظام المجتمع ووحدته الاجتماعية بين المسلمين".

5- الأخلاق في القرآن:

اهتم القرآن بجانب الأخلاق وتزكية النفس؛ فجاءت الكثير من الآيات تحث المسلم على حسن الخلق، والتحلي بالصفات النبيلة الفاضلة، فعندما سعى الغرب لهدم أخلاق الشباب، وجدوا أن القرآن يقف حائطًا صلبًا أمام هذا الانحلال الأخلاقي والمد التحرري؛ يقول (مارمادوكي بيكثل) الكاتب والأديب الإنجليزي الذي أعلن إسلامه لاحقًا: "القرآن يؤصل الأخلاق، فلا نستطيع إنكار ذلك؛ حيث أنزل إلى النبي عليه السلام وبلغه بدوره، فمن أراد التقرب إلى الله عز وجل، توجه إلى القرآن؛ ففيه بيان حق الخالق وحق المخلوقين".

إنه ليس إثباتًا من المسلمين فقط، بل يقرُّه اليهود والنصارى أيضًا، فحتى من لا يؤمن به يقرأه؛ لما فيه من تعاليم وأحكام ونظم تزكي النفس، وتهذب الأخلاق، ودلالات تشحن القلوب بالإيمان، وها هو المستشرق الفرنسي (لويس سيدو) يؤكد على الفضائل التي جاء بها القرآن الكريم وحث عليها فيقول: "لا تجد في القرآن آية إلا توحي بمحبة شديدة لله تعالى… وفيه حث كبير على الفضيلة من خلال تلك القواعد الخاصة بالسلوك الخلقي، وفيه دعوة كبيرة إلى تبادل العواطف، وحسن المقاصد والصفح عن الشتائم، وفيه مقت للعُجب والغضب، وفيه إشارة إلى أن الذنب قد يكون بالفكر والنظر، وفيه حضٌّ على الإيفاء بالعهد حتى مع الكافرين، وتحريض على خفض الجناح والتواضع، وعلى استغفار الناس لمن يسيئون إليهم لا لعنهم، ويكفي جميع تلك الأقوال الجامعة المملوءة حكمة ورشدًا لإثبات صفاء قواعد الأخلاق في القرآن".

6- رمز للبلاغة والفصاحة، وهو الوعاء الذي حفظ الله به اللغة العربية من الضياع:

القرآن نزل بلسان عربي مبين واضح، ولولا هذا القرآن، لكانت اللغة العربية قد تلاشت واضمحلت، وتفرعت إلى لغات كثيرة، فالقرآن جاء وحفظها، فهي باقية محفوظة ما بقي القرآن يُتلى ويُقرأ، وقد تحدث (جورج سارتون) عن عالمية اللغة العربية؛ حيث يقول: "إن لغة القرآن على اعتبار أنها اللغة التي اختارها الله عز وجل للوحي، كانت بهذا التحديد كاملة… وهكذا ساعد القرآن على رفع اللغة العربية إلى مقام المثل الأعلى في التعبير عن المقاصد… وجعل منها وسيلة دولية للتعبير عن أسمى مقتضيات الحياة".

وهذه شهادة الدكتور (ماورث) وهو رجل متعمق في الأدب العربي ومترجم لمعاني القرآن:

"ما هو القرآن؟ معجز ببلاغته، فخر لأمة الإسلام بإعجازه، أكمل وأشمل الكتب السماوية المنزلة، لطف وكرم من الله عز وجل للبشرية، فلو نظرنا إليه نجده أعلى بيانًا ومقامًا من الفلسفة اليونانية… مليء بحمد وشكر خالق الأرض والسماوات، مبينًا قدرته وتصرفه مشتملًا لعظمته جل علاه… إنه مرجع للأدباء والفصحاء وعلماء اللغة والمهتمين بعلومها والمهتمين بالشعر، إنه خزينة لكل العلوم ومرجع للفقه والشريعة… إنه صوت الحق الذي علا من أرض الحجاز ومن غار حراء؛ لينقذ النصارى مما وقعوا فيه من شقاق، ويعلمهم أطهر دين، ولكنهم لم يسمعوا لهذا الصوت ولم يعيروه أي انتباه".

المستشرق (فون هامر) في مقدمة ترجمته للقرآن: "القرآن ليس دستور الإسلام فحسب، وإنما هو ذروة البيان العربي، وأسلوب القرآن المدهش يشهد على أن القرآن هو وحي من الله، وأن محمدًا قد نشر سلطانه بإعجاز الخطاب، فالكلمة لم يكن من الممكن أن تكون ثمرة قريحة بشرية".

هذه الشهادات اخترتها من مئات الشهادات التي أدلى بها كثير من المفكرين الغربيين عندما قرؤوا عن القرآن بنظرة منصفة وتجرد واضح، وأعملوا عقولهم في التأمل بما جاء به، ورأوا قوة تأثيره في حياة من أقبل عليه وتأمل فيه؛ ليكون المسلم على يقين بعظم القرآن وعلو منزلته، وليحمد الله على هذه النعمة التي هو فيها؛ وهي نعمة الإسلام والإيمان.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

واحد × 1 =

زر الذهاب إلى الأعلى