الدين والحياة

مناقشة نقدية لدعاوى الخطاب الأخلاقي عند طه عبد الرحمن

حمزة جيلي

يقول الأستاذ طه عبد الرحمان: "وقد أوردنا أيضا أن التخلق المؤيد يورث صاحبه نظرة إنسانية واسعة – إذ يدرك المتخلق أكثر من غيره أن الإنسان ما خلق إلا ليتخلق – ومن آثار هذه النظرة اتساع قلبه لبني البشر قاطبة".
يولد الإنسان وهو يرى أن نفسه مرتبطة بعلاقات مع غيره بـعلاقات (عادية) أي (سننية) وعرفية إن صح التعبير، فليس هناك مثلا ضرورة منطقية في أن ترتبط فكرة البراءة بـصورة طفل صغير. لكن العادة والسنة الكونية دائما تقتضي أن يوجد في الإنسان شعور شاعري جميل عند رؤية طفل صغير مبتسم.
وليس الأمر متعلقا بالانفعالات، بل بالأفعال فلا يمكنك إن كان لك تكوين بسكولوجي مثل تكوين الفقير مثلا أن ترى عجوزا يحمل شيئا يكاد يقضي عليه ولا تساعده، فهذه العادات مستقرة وثابتة في حقيقة الأمر قبل أي بحث فلسفيّ، فقد لا تتساءل أبدا عن السبب الذي يدفعك إلى فعل ذلك، هل هو دافع أخلاقي أو دافع مصلحي ؟ كل ما نعلمه في حدود التجربة، هو أن تلك الأنماط من التصرف والانفعال ثابتة، ربما تتغير شيئا فشيئا، فيفقد الطفل الصغير على سبيل المثال اندهاشه شيئا فشيئا، وهذا أيضا تسجله الطبيعة الإنسانية وتلاحظه دون الحاجة إلى أي بحث فلسفيّ. والطبيعة الإنسانية مع ملاحظتها لكل هذا، تجد إرادتها تتحرك صوب أفعال معينة وتعشق أشياء وتكره أشياء وتتحير في أشياء حتى تكاد تمتنع عن الفعل، في هذه الحالة لا يسأل الإنسان ما الذي يجب عليه فعله، بل يستقرئ تجاربه السابقة وتلك السنن وغير ذلك ثم يجد أن إرادته تتوجه لفكرة معينة على حساب أخرى أو تتحير، فتفضل عدم الفعل أو تنتظر أن يقرر القدر بخصوص ذلك الأمر، هذا يحدث خصوصا لما يتعلق الأمر بقرارات كبيرة أما في الحياة اليومية فربما تتصرف بمقتضى عادتها وطبيعتها بدون حتى أن تفكر.
في ظل هذا لنا أن نسأل عن الحاجة إلى بحث فلسفي بخصوص الأفعال الإنسانية؟ إن البحث الفلسفي إما أن يطلب تعديل إرادة الإنسان وعدم استنادها في أفعالها على تلك الأعراف والسنن والعادات والتجارب السابقة، بحيث تستند في اختيارها على شيء آخر يتعدى (التجربة والعرف) أو تكتفي باستنباط العلاقات بين الأفعال والانفعالات المتعلقة بالسعادة والشقاء الإنساني من تلك السنن والأعراف، هنا ينقلب الأمر إلى علم تجريبي محض وهو فرع من البسيكولوجيا الحديثة.
أما في الحالة الأولى، فيدعي الفيلسوف على أنه يجب على النفس الإنسانية التخلق، والتخلق يكون باحترام دستور أخلاقي مطلق يتجاوز تلك السنن والأعراف التي تكاد تكون متقلبة وليس لها أي ثبات كعالم الحس عموما، ويدعي أن هذا الدستور المطلق القائم على التجرد من المصلحة والمنفعة المحسوسة الخسيسة، كفيل بأن يجعل الإنسان يهتدي إلى موقعه من هذا النظام الكوني وذلك كفيل أيضا بأن يحقق له السلام الداخلي وربما السعادة الحسية التي توهم أن السعي وراء مصلحته باتباعه السنن المتقلبة هو الطريق الوحيد نحوها. واتباع هذا الدستور هو الذي سماه طه عبد الرحمن (التخلق) إذ من الواضع أنها دعوى إلى التعالي على الطبيعة، فليس التخلق سلبا للقيم المتطفلة على الطبيعة الإنسانية بل هو دفع النفس دفعا إلى التحلي بتلك القيم المتعالية (التراسندالية).
مشكلة هذا النظام عموما كمشكلة باقي الأنظمة الميتافيزيقية هي التعالي على الحس والإدعاء صلة الإنسان بشيء يعلو المحسوس. لو كانت هذه الفلسفات متصالحة مع الحس، لكان الواجب الاكتفاء بالقول بوجوب التصالح مع طبيعتنا بدون البحث عن شيء يتعدى طبيعتنا تلك والدستور المحسوس والمتغير الحاكم لأفعالها وانفعالاتها، ولسنا بحاجة إلى فلسفة معادية للحس أو مستغنية عنه لنحب الآخرين نوع حب، فكما قلنا الطبيعة اللامتفلسفة تعلم ذلك وفي أكثر الأحيان نتصرف ونحو واعون أننا متصلون جدا بغيرها لكن هذا الاتصال نعلم أنه ذو وجهين، فبعض الأغيار تتصل بنا فكرة شقائه على نحو إيجابي، وبعض الأغيار على نحو سلبي وآخرون تتصل بنا فكرة سعادتهم على نحو سلبي وآخرون على نحو إيجابي وهكذا، فلا يمكنني وأنا في ساحة الوغى أن يسع قلبي حب ذلك الغير وأنا أوجه سلاحي نحوه، لا يمكنني وأنا معترف بأن نفسي متصلة مع شقائه على نحو إيجابي في الوقت الذي يحمل فيه السلاح أما في الوقت الذي يكون فيه طريحا على الأرض، فربما تتصل نفسي بفكرة شيائه على نحو سلبي جدا، وهذا كله داخل في تلك السنة الكونية التي ما فتئت أتكلم عنها منذ بداية المقالة.
ولعل الذي يدفع الإنسان إلى اعتبار الأخلاق متعالية على الحس هو خشية استواء الذين يسمونهم الناس (عادة) وعرفا، بالمجرمين وأولئك الذين يتسمون عادة بالرجال الصالحين، فالصالح والطالح كلاهما متصل بالعالم وبباقي الناس وتربطهم علاقات حسية معينة وكلاهما تقريبا يتصرفان بإرادتهما لكن الطالح يتصرف على نحو لا يخدم الجماعة عموما والصالح يتصرف على نحو يخدم الجماعة ولعل ما ألف الطالح من العالم غير ما ألفه الصالح فربما ألف أن الاهتمام الكبير بأمر الجماعة مؤذ له، أما الصالح فربما ألف أن الاهتمام بأمر الجماعة مسعد له ولأنه لا يقبل بفكرة أن كل شخص يفعل بما يتناسب مع طبيعته المحسوسة وظروفه، وأنه لا يمكن أن يكون مساويا لذلك الذي يفعل تلك الأفعال الضارة بالمجتمع، فإنه يبحث عن عالم آخر يدعي أن أفعاله مستمدة منها، عالم توجد فيه الدساتير الأخلاقية مجردة عن كل خاصية حسية متغيرة، عالم يقول له (ما تفعله أنت صواب وما يفعله غيرك خطا) هذا الدستور المناقض للتجربة بل حتى لدستور العقل، فإن دستور العقل يقول أن أفعال الطالحين حتمية في ظل وجود أسبابها التي حتمت وجودها هذا إن لم يكن وجودها مستمدا من نفس ذواتها، فإنه لو كان وجودها ضروريا لذاتها، فمن هذا الذي يقول لم يكن ينبغي وجود ما هو أصلا واجب في ذاته؟ أما إن احتاجت إلى سبب، فهي إذن ضرورية بضرورة أسبابها وهذه الأسباب ضرورية لذاتها، فهل وجود ما هو ضروري في ذاته أمر لا تقبله الأخلاق الفاضلة ؟
بقيت الإشارة إلى الضابطة التي تفسد جميع المذاهب التي تخالف هذا المذهب وهي أن كل مدعى غير تجريبي بخصوص الأفعال الإنسانية لا يمكن قبوله. من تم تلك الفلسفة التي تقول (الغير هو أناك في حياة سابقة أو لاحقة) على سبيل ليس لها أساس تجريبي، مثله مثل المذهب الذي يقول (أن للحقائق الأخلاقية ثبوت مفارق متعال عن التجربة الحسية) ولذلك فلست مضطرا لمخالفة دستور العادة بحيث أتصرف بحب مطلق اتجاه كل الناس، بل بعض الناس أحبهم وآخرون أكرههم وآخرون أشفق عليهم وبعضهم لا، وقد أحب شخصا في وقت وأكرهه في وقت، كل هذا ثابت في دستور العرف المتغير الذي لا يقبل بحاكميته الفلاسفة الأخلاقيين. من تم تظهر هشاشة تلك الفلسفات التي تدعو إلى تسوية القريب بالبعيد وتسوية الذي يشبهنا بالذي لا يشبهنا، والذي له نفسه اهتماماتنا بالذي ليس له، والمرح بالغاضب على الدوام، الذي اعتادت النفس حضوره قربنا بالذي لم تعتد النفس حضوره وبالذي لون جلده يدخل البهجة على قلوبنا وبين الذي يثير لونه وملامحه انقباضا في نفوسنا، ليس المشكل في إرادتنا فالإرادة والحب الذاتي الذي في قلوبنا لا يهتم لكمات من يقول (ليس يجب عليك فعل ما فعلت) مستمدا هذا النهي من عالم لا تعرف إرادتنا ولا تعرفه مشاعرنا، غاية ما يمكني لي قوله أني كإنسان معتدل، أجد في نفسي حبا لباقي الناس حبا هادئا بحيث أساعدهم عند الحاجة وأحزن لحزنهم ومع ذلك لا يمكنني إنكار أنه لو تعلقت مصلحتي بحزنهم وبحاجتهم، فإن ذلك الحزن يكاد يقل شيئا فشيئا حتى يوشك على الاندثار وإن قلت غير هذا، فإني أكون عندها من الكاذبين.

رابط صفحة الباحث حمزة جيلي على موقع "فيسبوك":
https://www.facebook.com/hamza.djily.3

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

7 − خمسة =

زر الذهاب إلى الأعلى