الرأي

الجسد الجريح

عاش المغرب في الأيام الأخيرة، واقعة اغتصاب غير مألوفة، تجلت في اختطاف مجموعة من الشباب قاصر من أولاد عياد، ضواحي بني ملال واغتصابهم وتشويه جسدها بأوشام، أقل ما يقال عنها أنها انعكاس لعقلية مريضة ونفسية اجتمعت فيها كل العقد. أوشام تعكس حالة البلد وجزءا كبيرا من مواطنيه الذين باتوا يعيشون أوضاعا اجتماعية ونفسية قاسية، خاصة بالنسبة إلى المهمشين الذين يعيشون الفقر والجهل والهشاشة بكل مستوياتها. فهل هي مؤشر من ضمن مؤشرات أخرى لانهيار منظومة القيم والأخلاق، وإفلاس مجتمعنا الذي ينبئ بكارثة الفوضة القادمة، أم هي حالة معزولة يمكن تجازوها؟

 إن الاطلاع على تصريحات خديجة "القاصر" التي راحت ضحية مغتصبيها وضحية مجتمع ودولة، يجعلنا ونحن نحاول فهم ما جرى، نستحضر كل الكوارث التي نعيشها على مدار الساعة من زنا المحارم، واغتصاب الأطفال من كلا الجنسين، ومن قتل ونحر وانتحار. بركان عنف تفجر بشكل كبير، حتى صار شعار المرحلة، وعنوان بيتنا الداخلي، فمن العنف المرتبط بالتعاطي للمخدرات، وخاصة القرقوبي والحبوب المهلوسة بشتى أنواعها وألوانها، ّإلى العنف المرتبط بجرائم الاعتداء الجسدي، إلى العنف في الملاعب الرياضية وفي المؤسسات التعليمية، ومن العنف الأسري إلى العنف المرتبط بالاعتداء على الحريات الفردية ماديا ورمزيا، تشهيرا وإشاعات، تشكل مسرحها شبكات التواصل الاجتماعي، وخاصة ما ينشر في واتساب من اعتداء صارخ على حريات الناس الفردية وحياتهم الخاصة، تتشكل خريطة العنف بالمجتمع، لتأتي حادثة خديجة، لتسيل المزيد من الحبر والألم، والخوف من الغد. عصابة مختلطة من جانحين وبالغين بلوغ التناسل، لا بلوغ الرشد والعقل، حسب روايتها، استباحت عرضها وجعلت من جسدها مرتعا لحيوانتهم الجائعة، ومسرحا لكل استيهاماتهم المرضية، بعدما تحررت شياطينهم وأراقت دم الغزال ودمعه، حادثة بشعة تسائلنا جميعا، كما تسائل مدارسنا وضرورة إدخال التربية الجنسية في مقرراتنا.

اختطاف وحجز واغتصاب متوصل وتفنن في تخليد مرور المغتصبين على جغرافية جسد سجن قهرا في على هامش البلد وأحلام أبنائه. استمعت للضحية خديجة تروي كابوسها بصوت هادىء يعبّر ربما عن شجاعة داخلية فريدة، أو ربما تخفي وقائع وحقائق. وحدها المحاكمة العادلة ستخبرنا بما خفي وراء جبل التصريحات والتصريحات المضادة، وأنا أعيد الإنصات لخديجة، وهي تكشف تفاصيل جريمة قل نظيرها في العالم، استحضرت كل أنواع العنف التي مورست عليها، كما تقول، دون رحمة، ودون أن يرف جفن المعتدين، ولمست كل الحالات النفسية المتعددة التي عاشتها بين فزع الاختطاف والتهديد بالسلاح الأبيض، والعزلة في مكان ما من مغرب الهامش، فزعها وهي تواجه كائنات مغيبة، ما عاذ الله  أن تكون حيوانية، فالحيوانات قد تكون أرحم بها، خوفها وهي تتجرع المخدرات تحت التهديد، وهي تحت سيطرة هواجس فزعة ترقبا لانفراج أو حتى موت قد يكون لحظة أمل، رأت فيه خلاصها من عذاب لا منتهي. أغمضت عيني لوهلة وتخيلت ابنتي مكانها، انجر نزيف داخلي روحي، قفزت من هول المنظر وصرخت من الألم…

استمعت للطرف الاخر، معارف وعائلات المتورطين المحتملين، شهادات جعلت من خديجة القاصر شريكة للجناة، حكايات عن انحرافها وتسجيلات تحاول تفنيد قصة اغتصابها وتشكك حتى في قصة أوشامها. فإذا كانت رواية خديجة حقيقية، فإننا ننتظر العدالة أن تنزل عقوبات زجرية على المغتصبين، مع إعادة تقويم انحرافهم وسلوكاتهم العنيفة والشاذة، وإذا كانت الرواية المضادة صحيحة، فخديجة متهمة كما المتهمين الذين ليسوا سوى مجرد ضحايا وضع اجتماعي واقتصادي مأساوي، يجب الانكباب على دراسة حالتهم النفسية والأخذ بيدهم داخل المؤسسات الإصلاحية والعلاجية، ففي النهاية، فالأمر يتعلق بجحافل من شباب ومراهقين ضائعين، مثلهم في ذلك مثل الكثير من الشباب الذين يغرقون في فراغ قاتل، فقدوا الثقة في النفس وفي المستقبل، مما أفقدهم الإحساس بالتوازن والاستقرار، فلجأوا إلى الإدمان هربا من واقعهم المأساوي، وباتوا لا يحلمون إلا بلحظة نسيان أو هروب، أو اقتفاء المجهول في رحلة عبور إلى الضفة الأخرى، وما أخبار غرق زوارق الموت إلا ترجمة لهذا اليأس الكامن في أعماق شبابنا.

إن هؤلاء الجناة المحتملون، ضحايا الهامش والجهل، انحرافهم نتيجة لسوء تدبير وتخلي الجميع عن مسؤولياته وواجباته، ابتداء من الأسرة، مرورا بالمدرسة ومؤسسات الدولة، والجماعات المنتخبة التي تتحمل مسؤولية جسيمة في فشل مسلسل التنمية المحلية والوطنية، والأحزاب والنقابات وكل مؤسسات الوساطة. فشل لا يقل جسامة من فشل الشأن الثقافي في بلادنا، فشل دور الشباب والرياضة…الخ. إنهم عنوان صارخ للفشل السياسي والاقتصادي والاجتماعي في تحقيق التنمية المنشودة.

يكمن الحل في اجتثاث العنف والانحراف، على مستوى الواجهة الثقافية في إعادة النظر في مناهجنا التربوية وتوسيع الأفق المعرفي البنائي للوعي والشخصية، عبر مواد وبرامج ثقافية هادفة، تنهض بمستوى الفرد وتعمل على إذكاء وتغذية عقله وروحه، بعيدا عن استراتيجية الإلهاء وبرامج التمييع، التي تتحمل فيه وسائل إعلامنا السمعي البصري، مسؤولية كبيرة، لنأخذ المسألة بجدية ونعمل على مد أطفالنا وشبابنا بمناعة مكتسبة عبر تحفيزهم على الدراسة والقراءة وتشجيع ملكة  الخلق والإبداع والإحساس بالمسؤولية والمدنية والمواطنة لديهم، لأن الفكر والتكوين الرصينين يحصنان المجتمع من الانهيار والانحراف.

علينا بإعادة الاعتبار للمثل العليا، وتشجيع القدوات الحسنة من مفكرين وأساتذة باحثين وعلماء ناجحين استطاعوا الخروج من عنق زجاجة الفقر بفضل مثابرتهم وصبرهم، كفانا من أخبار أشباه الفنانين والفنانات الذين أصبحوا جاثمين كالصخر والرصاص على أنفاسنا من خلال تقديم حياتهم المائعة وفضائحهم الكثيرة، بالتأكيد لا يمثلون إسوة حسنة لأطفالنا، بل بالعكس إنهم يهدمون ما تبقى من آمالنا في مستقبل الجيل الجديد، وما حادثة أولاد عياد إلا مثال لما تؤدي إليه الميوعة والبؤس في الإعلام والثقافة والتعليم. إن حادثة "فتاة الوشم"، وهي تعكس الجسد المغربي الجريح، ما هي إلا ورقة من ضمن أوراق التوت التي باتت تتساقط تباعا، مظهرة الوجه الحقيقي المؤلم للمغرب العميق، مغرب الهامش. فهناك خلل أكيد، وخلاصنا هو إحياء منظومة القيم التي تم اغتيالها مع سبق إصرار وترصد، وتصحيح المسار من أجل إصلاح شامل على جميع الأصعدة الاجتماعية الاقتصادية والسياسية، فقد تستعيد خديجة، وأخواتها كرامتهن، وقد نعانق جميعا مغربا آخر بألوان أخرى، غير اللون الأسود. وللأمل بقية. 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

5 × 3 =

زر الذهاب إلى الأعلى