بين الإصلاح والعدمية
تتأسّس هذه المقالة على فرضية مفادها أن التأخر في تقعيد خطاب الإصلاح على أرض الواقع، يُساهم في تغذية خطاب العدمية، بكل التبعات النظرية والميدانية لهذه التغذية، سواء كانت تهم الفاعل المحلي أو الأجنبي.
نقول هذا أخذاً بعين الاعتبار أن أحداث "الفوضى الخلاقة" التي مرت منها المنطقة، بما فيها المغرب، والتي اصطلحت عليها مجلة "الفورين أفيرز" الأمريكية بأحداث "الربيع العربي"، ابتداءً من يناير 2011، أكدت بالملموس أنه لا يمكن فصل تطورات أو قل تفاعلات أوضاع داخلية في دولة ما من دول المنطقة، مع تفاعلات وحسابات استراتيجية.
لم يسبق للمواطن المغربي أن كان متعطشاً لتفعيل المشاريع الإصلاحية التي تتحدث عنها السلطة، والتي سطرت معالمها المدونة الدستورية لفاتح يوليو 2011، مثلما نُعاين خلال السنين الأخيرة، وذلك من فرط تضافر عدة عوامل، منها التأثير المتصاعد للثورة الرقمية التي جعلت المطالب الاجتماعية حاضرة بشكل آني وتلقائي، ولا تحتمل التأخر في التفاعل أو التجاهل في المتابعة؛ ومنها انخراط المواطن المغربي، من حيث يدري أو لا يدري في عقد مقارنات بين مستوى المعيشة بين هذه الرقعة أو تلك.
واضح أننا لا نتحدث عن مقارنة أوضاع الصحة والعدل والتعليم والإعلام.. إلخ، مع السائد في الساحة العربية، من البحر إلى البحر، فالمغاربة لا يقارنون أنفسهم مع الأوضاع في الجزائر أو سلطنة عمان مثلاً، بدليل إننا نسمع بين الفينة والأخرى عن مشاعر "الغيرة" أو "الحسد" الصادرة عن بعض شعوب المنطقة، بل إن الخطاب الملكي نفسه، توقف عند هذه الجزئية في إحدى المناسبات، من خلال إشارة جاء فيها بالحرف: "اللهم كثر حسادنا".
لا نتحدث قط عن هذا الصنف من المقارنة، وإنما نتحدث عن المقارنة التي ينخرط فيها أغلب المغاربة، بين أحوال أهم القطاعات الحيوية سالفة الذكر، من طنجة إلى الكويرة، وأداء القطاعات ذاتها في الدول الأوربية، أقلها الأحوال في الجارة إسبانيا، أو حتى في سبتة المحتلة، على سبيل المثال لا الحصر.
مباشرة بعد أحداث "20 فبراير"، والتي تميزت بتفاعل أعلى سلطة في البلاد، بما اقتضى الانخراط المجتمعي، الرسمي والشعبي في تعديل الدستور، ارتفعت توقعات الشارع المغربي، وكانت الآمال مركزة بشكل كبير على ما هو منتظر من حكومة ما بعد 20 فبراير، ولكن، على غرار ما جرى في الحالة المصرية والتونسية، اتضح أن سقف المطالب مرتفع مقارنة مع سقف أداء الحكومات المُنتخبة، وهذا ما تأكد حتى مع الحكومات الموالية، منها الحكومة المغربية الحالية، من فرط تواضع الأداء، وبقاء نفس التطلعات، بل ازداد الوضع تعقيداً مع ظهور بؤر احتجاجية، أسالت الكثير من المداد المحلي والأجنبي، لعل أشهرها ما جرى في أحداث الحسيمة.
في هذا السياق إذاً، نقرأ حالة الانتظارية التي ميزت الخطاب الملكي بمناسبة احتفالات عيد العرش الأخير، والذي حدد فيه الملك القضايا ذات الأولوية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، ودعا فيه إلى مزيد من التعبئة والروح الوطنية والثقة بين الفاعلين، قصد التجاوب المستمر مع مطالب وحاجيات المواطنين، بل واستباقها بتقديم أجوبة محلية وفعالة.
بل إن مؤشر الانتظارية التي سبقت تفاعل الشارع مع هذا الخطاب، كان أشبه بمؤشر الانتظارية التي سبقت التفاعل الملكي مع أحداث 2011، بما يُؤكد أن ثقة الشارع تجاوزت ما هو منتظر من العمل الحكومي، وأصبحت تتطلع إلى ما يصدر بشكل مباشر عن ملك البلاد، على أساس أن يتم تقعيد مضامين هذا الخطاب أو غيره، على أرض الواقع، وهذه للمفارقة الصارخة، مهمة المؤسسة الحكومية العاجزة، وفي أحسن الأحوال، متواضعة الأداء.
"شعرة معاوية" دقيقة توجد بين الإصلاح والعدمية، ولا مفر من التعامل معها بذكاء وحكمة.