.. إنطلق ثلاثي صحيفة المنتخب من مكتبه في سابريس..كان محمد برادة قد أعلن البداية ..كان مفعما بحماسة غريبة أكثر منا ..كنا متواضعين جدا في رأسمالنا …لا نمتلك مكتبا يأوي مخاض منتوجنا فأقرضنا قاعة الاجتماعات بمكتب زنقة زحلة بالرباط بمائها و كهربائها و هواتفها ..و كان الشريف القادري مدير المكتب يتقاسم معنا همومنا ..صدر العدد الأول في 12 ألف نسخة و بعدها بقليل كان هدير مطبعة الرسالة يسجل على عداده خمسون ألف نسخة ..وبعد عام واحد اقترح أن تصدر المنتخب مرتين في الأسبوع ونفذ و ظل حتى بعد مرور حوالي 33 سنة وكان محمد برادة يؤمن بهذا الاكتساح ..رؤيته المستقبلية و..وفقا لمعطيات كثيرة و مركبة و حسابات استباقية دقيقة ساهم في إغناء المحيط الصحفي بجريدة رياضية متخصصة مازالت تتواجد حتى الآن ..و كان من المستحيل في الثمانينيات أن تعيش وسيلة إعلامية بتمويل ذاتي و لو عشر هذه الحقبة ..و ما فعله مع آخرين أسخى و أكرم..
تابعت محمد برادة من خلال لقائه بندوة الرباط .. بمناسبة ذكرى الستين عاما على تأسيس وكالة المغرب العربي للأنباء..كنت أغمض عيني خوفا ..لم تطاوعني نفسي أن أرى لاعب فريقي يسدد ضربة جزاء ..في الوقت الميت ..حاسمة ..و بإهدارها ..ستدخل الصحافة المغربية الورقية متاهة الأشواط الاضافية و ….ضربات الترجيح ..
وقف برادة أمام مرمى التاريخ و سدد .. “إن التحولات الاجتماعية التي أفرزت قارئا جديدا ..باهتمامات و نزوات وميولات مختلفة يهوى الخبر السريع و الصور و الفيديو و التفاعل و المختصر المفيد و اللا مفيد ..إنها أحد أسباب تراجع انتشار الصحف التقليدية ..إضافة إلى الزحف الرقمي و اعتماده على بلورة صحافة حديثة إلكترونية توفر الآنية و الحينية “.
الأهم ..هل ولجت التسديدة المرمى ..هل ستعيش ..ستستمر الصحافة الورقية أم ستندثر ..
..و بعد أن لوح برادة بأزيز سيف الحقيقة الصادمة بمبيعات – مبيعات كل الصحف المغربية – و التي لم تف بوعدها أرقاما و تراجعت بشكل مخيف تدريجيا خلال العشرين سنة الماضية..رش كلمات كرسالة قوية ..<< إن الصحافة الوطنية بإمكاناتها المتواضعة لعبت أدوارا مشرفة في التعبئة و التأطير و الدفاع عن المصالح العليا للمملكة ..>>.أي تستحق بهذا التاريخ الرائع أن تساند و تدعم .
وانتقل ضمن سلسلة مربوطة ببعضها ..مؤكدا إن المنابر الالكترونية التي أصبح عددها في المغرب حوالي 400 منبر هو تمييع يلقى التشجيع المباشر و غير المباشر مما يفسر -..ماذا يفسر .. – يفسر نفور القارئ ويدفع لإندثار الصحافة الورقية حتميا و قبل الموعد ..- يا إلهي -لكن ..هناك أمل ..أمل أن يحظى موضوع الإعلام و الصحافة بشكل خاص بالعناية اللازمة و يكون من بين الأولويات التي تناقشها لجنة دراسة النموذج المغربي الشامل .
اللاعب سجل التسديدة ..و لكن الحكم تردد و ربما قرر أن يراجع – الفار – .
لقد طرح برادة إشكالية التمازج و التكامل بين الورق و الالكترون لمحاولة إرضاء كل الميول ..بل وطرح ضرورة الاهتمام بالمقاولة الصحفية قال ..إن تجسيد مقاولة إعلامية عصرية مطلب ملح من كافة الأطراف حتى تكون لنا صحافة نستحقها لأن دورها ما زال مفتوحا بل ضروريا لمواكبة الأوراش الكبيرة التي تعرفها بلادنا.
لقد كان الرجل زعيم زعماء المعارضة المغربية التي أسست سابريس لمواجهة توزيع شركة أسسها الفرنسيون .. بل وأصبح رئيسا للمنظمة العربية للتوزيع و النشر ..
كان هدف التأسيس وطنيا و سياسيا قبل أن يسعى للربح ..و مازال يوثق برادة ل < هاشتاق > الحلم القزاحي ..جريدة لكل مواطن ..
فكيف يتوقف الحلم ..و كيف يندثر الورق …عندما ظهرت السينما بكل إبهارها وظهر التلفزيون و ما أدراك ما التلفزيون ..ومعه الفيديو ..و كل الوسائط الجديدة لم تنزل ستائر المسارح ..ظلت المسارح في العالم تؤكد الحضور الأول ..كالحب الأول وهم أم حقيقة ..لأن المسرح فرجة عالية جدافي المستوى و الطرح و تأخذ حقها عينيا و بلا وسائط ..فرجة لها كل الخصوصيات و الجريدة قد تقاوم و تظل الجادة منها و المهنية رافدا من روافد الاعلام ..و أعتقد أن تراجع دور الأحزاب في المغرب من بين أسبابه الأساسية تراجع صحفه ..و عشنا زمنا بل أزمنة كانت صحيفة الحزب هي الحزب كله..هي مرآته و لغة برامجه و آفاق نضاله ..
الحقيقة الأخرى أن القرار السياسي لم يساهم في تطور الصحف ..غلاء الورق ..إرتفاع تكلفة مواد الطباعة ..وكان من الممكن تقليص بعض الضرائب على الورق و على مواد الطباعة ..و أتذكر أن محمد برادة كان يتأبط ملف مشروع ضخم يضاف إلى حلمه و إلى مؤسسة ورق بريس وهو مشروع إنشاء حوالي خمس مطابع تتوزع على مدن وجدة ..مراكش ..فاس ..طنجة ..لعيون إضافة لمطابع الرباط و الدار البيضاء ..حتى تطبع الصحف بالترتيب في أزمنة قريبة و يتم ربح الوقت و التنقل ..
لقد طالب بالتقنين كما ناضل من أجله سابقا ..كان برادة دوما يلح على دفتر شروط لكل من يريد أن يحصل على رخصة إصدار مطبوعة ..و كان يحذر ..غدا نرى صحفا يصدرها تجار مخدرات أو متناولي غسيل أموال أو منحرفين من كل جانب ..وبعد مخاض طويل.. أصبح لإ صدار جريدة هيبته و شروطه الصارمة ..و اليوم و مع التكلفة غير المرهقة لبداية أية صحيفة إلكترونية ..هي بالتأكيد مقاولة مكلفة جدا إذا أسست وفق منظومة مهنية حقيقية ..ترى ماهي الضوابط و الأذرع التشريعية الواقية التي تقاوم ولوج الدخلاء و تجار صحافة القمامة ..و لعل عدد 400 صحيفة إلكترونية التي تحدث عنها برادة و عن التمييع الذي قد يحدث و التي تؤدي إلى نفور القراء ..تعني بالتأكيد المزيد من إفساد الذوق العام ..و أتذكر هذه القصة / الرمز ..
قال التاجر لصاحبه ..لقد مزجت الشاي ببقايا نجارة الخشب ..و ربحت تجارتي كثيرا ونالت سلعتي إعجاب الجميع .وعندما ثبت و قلت مع نفسي كفى لقد ربحت كثيرا ..و لم أعد أخلط الشاي بأي شئ ..بارت تجارتي و خسرت كثيرا..
أجابه صاحبه ..لقد أفسدت ذوقهم ..و عليك أن تنتظر كثيرا حتى يتعودوا على الشاي السليم..
بالنسبة لتجربتي المهنية التي تقارب الخمسين عاما أعتبر الأستاذ محمد عبد الرحمن برادة نموذجا نادرا لصحفي وموزع و ناشر و مناضل ..نقي ..نظيف ..يبتدئ عمله في الخامسة صباحا ..رأيته عندما ساقني الظروف لأزوره وجدته في السادسة صباحا يرتدي لباسا أبيض كالأطباء ووسط العمال يوجه و يشرف قبل أن يصعد لمكتبه في الطابق العلوي..و يمارس أناقته المشهورة لاستقبال الناشرين و الصحفيين و الضيوف ..منظم بدقة يابانية يسرقه عمله جل يومه و ما تبقى يمارس خلاله الرياضة ..فهو لاعب كرة سلة بارز وترأس جامعتها..و…
و هل تريدون تعريفا آخر لهذا الرجل ..إنه مغني الحي الذي لا يطرب ..