مقتضيات النصيحة السياسية تحت مجهر عز الدين العلام
منتصر حمادة
ظاهر هذا العمل، عنوان يكاد يُحيل على “ترف فكري” صرف، على غرار العديد من عناوين الساحة، بما في ذلك عناوين أطروحات جامعية.
لكن باطن هذا العمل، لا علاقة له كلياً بأي ترف معرفي، لأننا إزاء مقاربة علمية لأحدى مُعضلات الفكر السياسي في المجال الإسلامي. ليس هذا وحسب، إن قراءة هذا العمل، تتطلب استحضار مجموعة من الإصدارات ذات صلة بالفكر السياسي في مجالنا الثقافي، وتساعدنا أيضاً، على الإمساك بأجوبة أو مقدمة أجوبة، بخصوص الأسئلة التي تعج بها أعمال سابقة تطرقت خلال السنين الأخيرة، لأزمة الدولة في مجالنا العربي الإسلامي، منها الأسئلة التي حفل بها كتاب “الدولة المستحيلة” لوائل حلاق، وليس صدفة، أن يتعرض هذا العمل بالذات، إلى حملات نقدية صادرة عن عدة أقلام بحثية تشتغل في سياق مشاريع دينية، محلية وإقليمية ودولية، وخاصة المشاريع الإسلامية الحركية.
نحن أمام دراسة تحليلية مقارنة لتراث سياسي غطى فترات طويلة من العصر الوسيط بشقيه العربي الإسلامي والغربي المسيحي، ومع تبرؤ الكاتب من أن يكون العمل يُصنّف في خانة التأريخ للأفكار لأن ذلك ليس من اختصاصه، معتبراً أن “العمل أقرب إلى مجال العلوم السياسي منه إلى العلوم التاريخية، على اعتبار أن ما نسعى إليه هو تجلية البنية العامة التي تتحكم في مختلف التصورات السياسية لهذه الآداب في نسختها الإسلامية والمسيحية، وتوضيح أوجه التطابق والاختلاف حسب الحالات”، إلا أن واقع الحال، يُفيد بأن العمل ينهل من عُدة منهجية مُركبة، تتداخل فيها علوم التاريخ والسياسة والاجتماع وحتى القليل من “فلسفة الدين”، ولو أنه المؤلف لا يزعم ذلك، ربما تواضعاً منه، أولاً وأخيراً.
موضوع “نصائح الملوك” باصطلاح مجالنا الثقافي أو “مرايا الأمراء” باصطلاح المجال الأوروبي، هو محور هذا العمل القيم، الذي يحمل عنوان: “النصيحة السياسية: دراسة مقارنة بين آداب الملوك الإسلامية ومرايا الأمراء المسيحية”، لمؤلفه الباحث المغربي عز الدين العلام، والإحالة هنا على أدبيات تتراوح ما بين الخطب والرسائل والمقالات والمواعظ، أما موضوعها الأساس، فيتمثل في “بسط مجموعة من النصائح الأخلاقية ــ السياسية من باب المساهمة النظرية في حُسن تدبير شؤون الإمارة أو المملكة، وبالتالي، لسنا إزاء “دليل عمل” يروم تحليل طبيعة النظام السياسي وآلياته بقدر ما يروم هذا الدليل، المساهمة في توضيح عدد من القواعد السلوكية التي يلزم الملك أو الأمير السير على نهجه”.
اجتهد المؤلف في الفصل الأول من العمل [وعنوانه: “آداب الملوك العربية ـ الإسلامية ومرايا الأمراء الغربية ـ المسيحية”] في تقديم مختلف التعاريف التي أُعطيت لهذه الكتابة السياسية، مشيراً إلى بعض الصعوبات المرتبطة الامتداد الكبير للفكر السياسي، الإسلامي والمسيحي، سواء في المكان أم في الزمان. ومن أجل تقريب القارئ من هذه الأدبيات السياسية، بحث المؤلف في مورفولوجيتها انطلاقاً من جرد أولي لمختلف عناوين مؤلفاتها التي تتفق جميعاً في مدلولها؛ كما استقصى مقدمات تآليفها التي توضح، من خلال إهداءها وصياغتها بضمير المخاطَب، وهو الملك أو الأمير المعني الأول بما يتضمنه الكتاب، الطابع العَملي الذي يكتنف تصوراتها السياسية.
يشتغل الفصل الثاني من الكتاب على المنظومة المرجعية المُميزة لأدبيات “نصائح الملوك” و”مرايا الأمراء”، حيث توقف المؤلف عند هيمنة المرجع الديني من خلال حضور الإسلام في آداب الملوك، والمسيحية في مرايا الأمراء، مبرزاً، بخلاف ما يُعتقد، العديد من أوجه الالتقاء في تعامل هذا الفكر السياسي مع المرجعية الدينية (المسيحية والإسلامية)، وبما أن هذه الكتابات لم تكن لتكتفي بالمرجعية الدينية في صياغة تصوراتها، فقد بحث المؤلف فيما أسماه المرجع الاصطلاحي، الذي اتخذ شكلين مختلفين يُترجمان المسار الحضاري والتاريخي لكل منهما، واللذان تجليا في الاعتماد على ما تسميه أداء الملوك الإسلامية بالسياسية الاصطلاحية والمقصود منها، أساساً، سياسات فارس وكذا لجوء المرايا إلى ما تسميه بالمرجع الدنيوي الذي يتخلص أساساً في أدبيات الحضارة الرومانية.
بالنسبة للفصل الثالث، ومادام العمل يشتغل على فكر سياسي تحتل فيه التصورات الأخلاقية والقيم الدينية مركز الصدارة، فقد اشتغل المؤلف على البحث في أخلاقيات الحاكم في كلتا التجربتين؛ ففي مرحلة أولى، أبرز العديد من أوجه التشابه بين تصورات آداب الملوك لمكارم الأخلاق الإسلامية وبين تأكيد الجيل الأول من مرايا الأمراء على فكرة الخلاص المسيحية، قبل الوقوف في مرحلة ثانية، على المسار المختلف لهاتين التجربتين، وهو المسار الذي مكّن المرايا المسيحية، مقارنة بنظيرتها الإسلامية، من الانتقال من هيمنة الفضائل الخلقية إلى الحديث عن هذه الأخلاقيات في ارتباط بما تتطلبه السياسية من خبرات وتقنيات، فاتحة بذلك الطريق نحو بوادر تأسيس تصور سياسي جديد.
في الفصل الرابع، اشتغل المؤلف على الموضوع الأساس الذي يُشكل جوهر هذين الفكرين السياسيين، أي حدود ومدى السلطة السياسية، التي يتمتع بها الملوك والأمراء، في هذا المجال التداولي أو ذلك، ومن خلال مختلف نصوص الآداب والمرايا، خلُص المؤلف إلى أن الحاكم بشكل عام، هنا أو هناك، كان يتمتع بالسلطة المطلقة.
أما الخصائص الأخلاقية التي لا يملّ مدونو هذه الأدبيات السياسية، الإسلامية والمسيحية، من ذكرها، فكانت من باب “الردع الأخلاقي” والكابح الوحيد لسلطة تتطابق فيها الدولة وشخص الحاكم، مع التوقف عند عدة فوراق نوجزها في محددين اثنين، حيث اتضح أن المرايا المسيحية تستحضر القانون وقواعد تلزم الحاكم والمحكوم على السواء، ومرد ذلك حسب المؤلف، أن المرايا المسيحية استفادت من الإرث الإغريقي ـ الروماني، والتكيف مع المستجدات الاجتماعية والسياسية والثقافية، التي كانت تعتمل آنذاك في أوروبا، وفي مقدمتها التكون الجيني للوحدات الوطنية، وظهور فئات اجتماعية جديدة بالتوازي مع الرغبة في التخلص من العوائق الفيودالية، وسلطة الكنيسة.
هنا بالذات، تكمن أهمية الدراسات التاريخية المقارنة، ومقارنة بعض تبعات تشكل نواة الدولة الوطنية في أوروبا، مقارنة مع السياق الإسلامي، والذي بالكاد سيمر من محطة أفول “الخلافة العثمانية” في عام 1924، التي كانت تمتد من المشرق حتى الجزائر.
لا يمكن الحديث عن تجربة سياسية ـ عربية إسلامية، ونصوص غربية ـ مسيحية وسيطية، دون التوقف عند معالم الجهاز الوسيط بين أجهزة دنيوية وأجهزة دينية، وهذا عين مضامين الفصل الخامس من العمل، وعنوانه: “جهاز الدولة بين آداب الملوك ومرايا الأمراء”، حيث مَهّد المؤلف لهذه المقارنة الحافلة بـ”الأسئلة المنهجية” بالإشارة إلى أن المقارنة بين تجربتين حضاريتين مختلفتين، تقتضي التمييز بين جهازي الدولة، الدنيوي والديني، سواء في النصائح الإسلامية أم نظيرتها المسيحية، ومعلوم أننا إزاء موضوع إشكالي بامتياز، ولتدليل بعض هذه الصعوبات، قام المؤلف بتقسيم الفصل على مبحثين اثنين: يتعلق الأول برجال الدين، ويتعلق الثاني بجهاز الدولة الدنيوي.
وبعد اشتغال المؤلف على بعض العلامات التي تقرب بنصوص المرايا المسيحية من مثيلتها الإسلامية، توقف أيضاً عند بعض الفوارق، وفي مقدمتها ما اصطلح عليهبالفارق التاريخي، مفاده أننا وجدنا أنفسنا إزاء مسارين مختلفين:
ــ هناك في الغرب المسيحي، بدءً من أوائل القرن 13، عاينا بوادر “تحول تاريخي كبير، ترجمته، في الغالب الأعم، نصوص المرايا نفسها: دولة قادمة قيد التأسيس، ملوك ارتبط اسمهم بتحقيق وحدات وطنية، تحييد دور الكنيسة، ورجال دين ينسحبون تدريجياً من الشؤون العامة لصالح دنويويين يمتلكون خبرات وتقنيات الإدارة والسياسة”.
في مقابل ذلك، نلاحظ أن ما ميّز أداء الملوك الإسلامية أنها تحدثت عن “دُول سلطانية قائمة، ومن ثمَّ إن ما كان يشغل بال مدونيها هو بسط الصفات الأخلاقية، والقواعد السلوكية الكفيلة بالحفاظ على هذه الدول، وتقويتها، ودوام سلطتها. تغيب في هذه الآداب، نزعات التغيير مقابل نزعة محافظة تتمثل في حضور تصور ستاتيكي للمجال السياسي”.
نأتي لخاتمة العمل وبعض الخلاصات، والملاحظ أن الخاتمة كانت عبارة عن أسئلة، تحسبُ للمؤلف، الذي لا يدعي التمكن الشامل من هذه الدراسة المقارن الحافلة بالقلاقل المعرفية والمنهجية، والتي تتطلب بشكل أو بآخر، استحضار بعض الاجتهادات المصاحبة، لأقلام بحثية، من مجالنا الثقافي على الخصوص، بعضها جاء إسمه في مجموعة مراجع العمل، من باب إغناء مضامين هذا العمل القيم الذي يستحق كثير تنويه وتقدير.
نورد الخلاصة الأولى في صيغة أسئلة وجيهة، وجاءت كالتالي:
كيف تمكنت مرايا الأمراء الغربية ـ المسيحية من تطوير نفسها؟ كيف نجحت تدريجياً، بشكل أو بآخر، في تكييف تصوراتها الأخلاقية مع ما يتطلبه الحكم السياسيمن خبرات وتقنيات؟ كيف تمكنت، في النهاية، من ملائمة القيم الدينية مع مستجدات السلطة السياسية؟ كيف وُفقت في استغلال الإرثين الروماني والإغريقي في تجديد فكرها السياسي؟ كيف حدث أن تصوّر رجال دين مسيحيون المجال السياسي شيئاً طبيعياً؛ بل صاغوا مؤلفات خالية من كل رهبنة أو إحالات دينية؟ كيف نجحت في التخلص التدريجي من شخصنة السلطة للتفكير في الدولة فضاءً مستقلاً؟”.
لا يملك المؤلف أجوبة نهائية ودقيقة وحاسمة في معرض التفاعل مع مُجمل هذه الأسئلة، ولكنه مرّر ملاحظة وجيهة، أشبه بمفتاح يختزل بشكل دقيق مجموعة من التساؤلات وجاء كالتالي:
لدينا، في تراثنا السياسي الإسلامي، فقيه موسوعي كتب في الدين وعلومه، وألف أكبر مدونة فقهية، كما كتب في السياسة وآدابها، بدءاً من “الأحكام السلطانية” إلى “قوانين الوزارة وسياسة المُلك”، مروراً بـ”نصيحة الملوك” و”أخلاق الملك وسياسة المُلك”، إنه قاضي القضاة أبو الحسن الماوردي؛
ولديهم في العصر الوسيط المسيحي، ثيولوجي كبير، ومفكر موسوعي، أحصى له بعض الباحثين، ثلاث وسبعين مؤلفاً جعلت منه أشهر القساوسة، ومكنته من أن يكون حجة عصره، كما ألف، مثله مثل الماوردي، كتاباً ضخماً في النصح السياسي بعنوان “حكم الأمراء”، وهو جيل دو روم.
لاحظ عدد من الباحثين أن كتاب “حُكم الأمراء” لجيل دو روم جاء خالياً من الإحالات الدينية، وأن مؤلفه، وهو رجل دين، لم يستند، في صياغة الكتاب، على أي مرجع ديني.
هذه الملاحظة تخول لمؤلف الكتاب طرح السؤال التالي: هل يمكن أن نتصور الماوردي يؤلف “نصيحة الملوك” دون أن يُحيل على الآية القرآنية والحديث النبوي؟
بالنسبة للخلاصة الثانية، فينتقد المؤلف إصرار بعض الباحثين عن اختزال الحديث اللصيق بمفهوم “الدولة الحديثة” كما لو أن الأمر يتعلق بمعطى جاهز، أو قل واقعة سياسية اكتملت معالمها، أو تكاد، والحال أنه “غالباً ما يتم إغفال مجموعة من المُحددات التي أوصلتنا اليوم إلى الدولة الحديثة، منها أن تطلبت قرونناً من الحركية التاريخية متعددة الأبعاد، ولو أن وقائع التاريخ تبين أن نعت الديمقراطية شيء لاحق، غير سابق، ولا متزامن مع تأسيس الدولة الحديثة”.
تكمن أهمية هذه الملاحظة في أنها تحيلنا على الوضع في المنطقة، هنا، في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، مع نتائج أحداث “الحراك”، حيث اعتقدت العديد من المشاريع الإصلاحية، أنه تكفي بضع أحداث هنا وهناك، حتى ننتقل زمنياً، فجأة، من سياق سياسي/ ديني مشرقي كما نعاينه اليوم، نحو تقليد السياق الغربي (المسيحي/ العلماني) كما نعاينه في الغرب الأوروبي على وجه الخصوص، هذا دون الحديث عن تواضع أدبيات الفكر السياسي في مجالنا الثقافي، اليوم، مقارنة مع التراكم المعرفي الذي يُميز المجال الثقافي الأوروبي.
أما الخلاصة الثالثة، فتفيد أن النظر إلى أوجه الاختلاف بين آداب الملوك الإسلامية والجيل المتأخر من مرايا الأمراء المسيحية، توصلنا إلى أن معظمها يرتبط ببوادر بناء الدولة الحديثة: تأويل للقيم الأخلاقية، والأوامر الدينية، يُساير تطورات الحياة السياسية، والانكماش المتواصل لدور المؤسسات الدينية، في مقابل الحضور المتنامي لـ”بيروقراطية” دنيوية في المجال العام، وإحلال سلطة القانون ومبدأ “التعاقد” وانتشارهما التدريجي في المجالين المدني والسياسي، والارتقاء بمفهوم “الرعية” التقليدي في اتجاه بناء “الجماعة الوطنية”.