منتصر حمادة
من الصعب إحصاء عدد الدروس المحلية والدولية المرتبطة بهذه الجائحة، بما في ذلك إحصاء المجالات البحثية التي من المفترض أن تشتغل على ذلك، من قبيل القراءات الدينية المصاحبة لها، أو القراءات الفلسفية، القراءات السياسية، القراءات الاقتصادية… إلخ.
لا نتحدث هنا عن القراءات والتفاعلات السياسية، خاصة أنها تحظى بأهمية قصوى في مثل هذه الأزمات، بدليل انشغال أغلب صانعي القرار في العالم اليوم، بشكل نسبي أو كبير، على تدبير الجائحة، كما هو الحال هنا في المغرب مثلاً، مع التدخل الملكي المباشر في تدبير الأزمة، بما ساهم في اتخاذ خطوات استباقية اتضحت أهميتها لاحقاً، وساهمت في التخفيف من حدة التداعيات المرتبطة بالجائحة.
نتحدث عن بالتحديد عن الدروس المرتبطة بالقراءات العلمية ذات الصلة بالأزمة، وخاصة علوم الطب والصيدلة وأداء المختبرات الطبية وما جاور كل القطاعات العلمية اللصيقة بالملف، أقلها ارتفاع مؤشر رد الاعتبار للعلماء العاملين في هذه المجالات، وليس صدفة، أن هؤلاء، سواء تعلق الأمر بأهل الطب والتمريض والصيدلة.. إلخ، صُنّفوا في خانة صفوف المواجهة الأمامية، في حملة التلقيح الجماعي، موازاة مع فئات مجتمعية أخرى.
في هذا السياق، نقرأ بعض الأسباب التي تقف وراء ارتفاع أسهم العديد من الأسماء التي تشتغل في المجال العلمي الأقرب إلى الملف، من قبيل الشهرة التي يحظى بها البروفيسور ديديي راؤول في فرنسا، أو البروفيسور عز الدين الإبراهيمي والدكتور الطيب حمضي في المغرب، وقس على ذلك أمثلة أخرى في العديد من دول العالم، لذلك ارتأينا عند هذه الأسماء الثلاثة، من باب الاستئناس والتقدير في آن:
ــ الأول ديديي راؤول، هو مدير المعهد المتوسطي للأمراض المعدية في مدينة مرسيليا، وبسبب ارتفاع مؤشر شعبيته، صدر كتاب حوله في يونيو الماضي، وهو عمل مشترك من تأليف ماري فرانس إيتشغوان وآريان شومان، بعنوان “راؤول: حماقة فرنسية”، وجاء في 240 صفحة. (ظاهر العمل، وقفة مع ظاهرة ديديي راؤول، بما له وما عليه، وهذا أمر طبيعي، في العالم بأسره، وفي جميع المجالات البحثية، لولا أن العمل كان قاسياً في مؤشر النقد، الأقرب إلى تصفية الحسابات ضد الرجل، وليس هذا موضوع هذه المقالة).
ــ الثاني، عز الدين الإبراهيمي، هو ابن مدينة القصر الكبير، إحدى مدن الهامش في المغرب، ولكنه يشغل منصب مدير مختبر التكنولوجيا الحيوية، إضافة إلى أنه يقود فريقاً من العلماء للبحث عن علاج لمرض التوحد، واشتهر بحضوره النظري والعملي في التفاعل مع الأزمة، سواء من خلال عمله في مختبر التكنولوجيا الحيوية، حيث ينشر أحدث التقارير ذات الصلة بالموضوع، بين الفينة والأخرى في صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، أو من خلال الحوارات التي يدلي بها بين الفينة والأخرى.
ــ والثالث، الطيب حمضي، وهو من مدينة العرائش، وهي مدينة من مدن الهامش أيضاً، ولكن هذا الهامش لم يمنعه من أن يكون طبيباً وباحثاً في السياسات والنظم الصحية، ومن الأسماء العلمية التي يُحسبُ لها المساهمة الكمية والنوعية في توعية الرأي العام بالعديد من القضايا المرتبطة بالجائحة، كما هو جلي، على سبيل المثال لا الحصر، من خلال الحوارات التي يدلي بها للمنابر الإعلامية، بالعربية والفرنسية، وحتى بالإسبانية والإنجليزية، والتي ينشر روابطها في صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”.
أياً كانت العوامل المركبة التي تقف وراء هذه الشهرة، أو الإقبال أو المصداقية، هنا أو هناك، فإنه هناك عدة خلاصات هامة تقتصي الانتباه، منها ما يشبه إعادة الاعتبار لمقام العلماء، بصرف النظر هنا عن طبيعة العلم المعني.
ولهذا، عندما نشر أحد الرسامين منذ سنة ونيف، صورة لبعض الفاعلين في المؤسسات الدينية، من شتى المرجعيات الدينية في العالم، وهم يتوسلون عالِم في إحدى المختبرات، لكي يتوصل إلى مخرج عملي لهذه الأزمة، عبر التوصل إلى اللقاح المرجو، أو أي علاج طبي آخر، المهم، البحث عن مخرج لهذه الأزمة، فإن هذا الرسم، لا يمثل أي إساءة إلى أي فاعل ديني كما اعتقد حينها البعض، عن حسن نية أو عن سوء نية، ثم إن القراءة تبقى شأنهم، بقدر ما كان الرسم يضع الأمور في نصابها.
وإن كانت هناك ممارسات مطلوبة من أهل العلوم الدينية، فإنها تكمن على الخصوص في الأخذ بالأسباب، سواء جاء ذلك بشكل غيبي، من قبيل الاستعانة بالدعاء ــ لا يجب الاستهانة من أهمية الدعاء ـــ أو جاء بشكل مادي، عبر الالتزام بالإجراءات المتبعة، من قبيل الإجراءات الاحترازية، هنا وهناك، حسب طبيعة التطورات في كل بلد.
ثم إن التجربة التاريخية تفيد أنه لا توجد مشاكل بنيوية بين العلم والدين، إن تعرضت هذه الثنائية للتشويه من قبل غلاة التديّن وغلاة العلم، بخلاف الأمر مع الغالبية العظمى من شعوب العالم، قديماً وحديثاً.
كانت هناك نقاشات فلسفية تهم هذه الثنائية، وكانت هناك ثورات علمية تطلبت مراجعات من أهل الخطاب الديني، بل وصل الأمر إلى صدور اعتذار رسمي في 31 أكتوبر 1992 عن البابا يوحنا بولس الثاني، أعلى سلطة دينية عند المسيحيين، الذي قام على أساسه بإلقاء خطبة، وفيها قدم اعتذاراً من مؤسسة الفاتيكان على ما جرى لغاليليو غاليلي أثناء محاكمته أمام المؤسسة ذاتها في عام 1623، بما يقف لاحقاً وراء رد الاعتبار البابوي لغاليليو بشكل رسمي في 2 نوفمبر 1992 لكرامة جاليليو، ولكن هذه أحداث عابرة، لا تقوض قط العلاقة السوية بين المجال الديني والمجال العلمي، إلا عند أتباع تزييف الوعي باسم الدين أو تزييف الوعي باسم العلم كما سلف الذكر، ومن هؤلاء، نذكر، على سبيل المثال لا الحصر، تفاعلات بعض الأتباع عند المسلمين والمسيحيين واليهود والهندوس، في معرض سوء التفاعل مع الأزمة، لعل أشهر وأخطرها، ما قام به ملايين من الهندوس، باسم الدين، هناك في الهند، بما ساهم في استفحال الوضعية الوبائية هناك، لأنهم خرجوا عما يمكن الاصطلاح عليه بالوسطية الكونية في تدبير العلاقة بين العلم والدين.
شهرة الثلاثي سالف الذكر، شهرة متوقعة، وضرورية، وتصب في تغذية هذه الوسطية المطلوبة اليوم أكثر من أي وقت مضى، في تدبير الأزمة، وهي شهرة تنتصر أيضاً لمكانة العلم والعلماء.
والعلم هنا، هذه المرة، في أفقه اللامتناهي: “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب”. الآية.