الرأي

حلوى ريمة في برلمان باليما

 

د. بوجمعة العوفي

 

"عادت حليمة إلى عادتها القديمة" هو أحد الأمثال العربية الشهيرة، ويُضرَب للشخص الذي يعود دائما إلى طبعه الأصلي، وإلى أفعاله وعاداته القديمة التي كان قد توقف عن القيام بها لمدة. وللمثال روايات عدة في العالم العربي، لكن الرواية المصرية تبقى أكثر تناغما مع ما يذهب إليه هذا المقال. حيث تم في مصر تحريف هذا المثل إلى : " عادت ريمة إلى عادتها القديمة ". و " حليمة " هي زوجة  "حاتم الطائي " الذي اشتهر بالكرم، كما اشتهرت هي بالبخل، فكانت إذا أرادت أن تضع سمناً في الطبخ، ارتجفت الملعقة في يدها، فأراد حاتم أن يعلمها الكرم فقال لها: إن الأقدمين كانوا يقولون أن المرأة كلما وضعت ملعقة من السمن في طنجرة الطبخ زاد الله بعمرها يوماً، فأخذت حليمة تزيد ملاعق السمن في الطبخ، حتى صار طعامها طيبًا وتعودت يدها على السخاء. ولما مات ابنها الوحيد الذي كانت تحبه أكثر من نفسها، جزعت حتى تمنت الموت، وأخذت لذلك تقلل من وضع السمن في الطبخ حتى ينقص عمرها وتموت فقال الناس: " عادت حليمة إلى عادتها القديمة ".

          ما علاقة هذا المثل الشعبي بالبرلمان المغربي ؟ حتما يكمن الجواب في واقعة تهافت بعض " البرلمانيين " المغاربة على التهام الحلوى وتهريبها في علب وأكياس بلاستيكية، عقب انتهاء مراسيم افتتاح الدورة الخريفية لمجلس النواب في دورته الأولى من السنة التشريعية الثالثة ليوم  12 أكتوبر من هذه السنة ( 2018 ). هذه الواقعة التي تفننتْ إبداعات الهامش المغربي كثيرا في تصويرها، من خلال منصات التواصل الاجتماعي، بالكثير من الإبداعية والسخرية المدمية، حيث بدا للعيان ما كان مستورا في السنوات الماضية، وتأكدت للجميع صفات البخل ولهفة البطن المتأصلة في طبع الكثير من البرلمانيين المغاربة. إذ سرعان ما عادوا إلى طبائعهم وعاداتهم القديمة. وكانت فضيحتنا بـ " جلاجل " كما يقول المصريون. كانت الفضيحة مدوية.  أما علاقة هذا البرلمان بمقهى " باليما " الشهير والموجود قُبَالته، فقد أصبح هذا البرلمان لصيقا بهذا المقهى، إذ يُعرف كلاهما بالآخر ويدل عليه. لذلك يجوز أن نجمع هنا بين التسميتين في كلمة واحدة هي : " باليمان " اختصارا للمعنى وتعميقا للمطابقة والمشابهة.

             ثم إن تسمية " باليمان " المركبة من دمج كلمتي " باليما ' المقهى و " البرلمان " القبة، بإمكانها أن تحيلنا أيضا على العديد من التأويلات والاشتقاقات والدلالات التي لا حد لها: كأن نقول مثلا باللسان الدارج المغربي بأن المرشح الفـلاني " بْلى" ( بتسكين الباء ) في البـرلمان: يعني أنه أصبح قديما فيه قـدم المادة، على حد قول بعض الفلاسفة، وأن نقول كذلك بأن المرشح العلاني " بَلى " ( بفتح الباء ) في البرلمان: يعني أنه ذكي و " مطور " و "حافظ قويلبات " السياسة، ويعرف دائما كيف يحافظ على مقعده تحت القبة الظليلة. إلى درجة أن العديد من " الباليمانيين " المغاربة قد حجزوا مقاعدهم تحت القبة العجيبة إلى الأبد. كأنهم خلقوا ليكونوا " باليمانيين ". ولن نجد هنا مثالا لذلك أحسن مما فعله " صاحب " الكتاب الأخضر "، " الزعيم " أو " المُنظّر " الراحل العقيد " القذافي  "، الذي افتقدنا كثيرا، نحن المواطنون المكتئبون، قفشاته الساخرة على شاشات التلفزيونات العربية المليئة بالدم والدمار، حين أعطى تعريفه الخاص للديمقراطية بكونها هي " كثرة أو ديمومة الجلوس على الكراسي ". كراسي المقهى أو كراسي البرلمان. لا فرق كذلك في بلاد " باليمان " العجيبة. وربما يكون هؤلاء الجالسون أبدا على المقاعد المعلومة هم أول من تنبه إلى قولة " الأخ العقيد " وقاموا بتطبيقها على أحسن وجه.

           وعلى ذكر القبة، فلهذه الكلمة العجيبة، نفسها أيضا، في الحياة السياسية المغربية الهجينة وقاموسها ما يكفي من الدلالات أو يزيد عن حاجة المواطن المغربي، المتفرد أو المتفنن أيضا في منح دلالاته الخاصة للسياسة وأمورها التي لا يفقه فيها إلا " الجالسون تحت القبة " أو " الراسبون في العلم ". إذ بإمكاننا أيضا أن نشتق من كلمة " القبة "، على غرار ما يفعله نُحاة السياسة والبلاغيون الجدد عندنا تحديدا ( أصحاب البلاغي )، حيث يوجد عندنا في المغرب أيضا ما يسمى بـ" الرئيس القُبّي" و " المستشار القُبّي " و البرلماني القُبّي " أو " القُبّان " ( الأمي الذي لا يحسن حتى كتابة اسمه الشخصي أو فقيه بـ " قُبّ " الجلباب فقط بتعريف الفقهاء أنفسهم ). التسمية لا تهم. المهم هو الوظيفة التي يقوم بها " القُبّ " في الجلباب وفي السياسة وفي الحمّام المغربي. نفس المعنى لنفس الصفة. ونفس الوظيفة لنفس الأداة.  تلك هي بعض مفارقات المشهد السياسي المغربي وفلتاته العجيبة. إذ كيف يصل إلى قبة البرلمان أو " باليمان " " الطاشرون " و " الباطرون " و " مول الهامر " ولا يصل الطبيب والأستاذ الجامعي والمثقف وغيرهم من نخبة المجتمع وزبدته ؟ من يملك جوابا لهذا السؤال ؟

    ربما " الراسبون في العلم " من أهل القبة، هم وحدهم من باستطاعتهم أيضا أن يسعفونا بجواب نافع ودليل قاطع على أن المغرب يتقدم بالفعل بسياسييه وحكوماته وبرلمانييه ونواب أو " نُوام " الأمة ؟ وأننا فقط نحن القلة القليلة من الصامتين والمتشائمين اليائسين الذين لا نستطيع أن نرى هذا التقدم ونلمس إنجازاته الباهرة ؟ وأن " القُبّان " و " القُبّي " و " باليمانيي "  " الشكارة " و السيارة " و " العمارة " و " التجارة " هم الأفيد لنا في هذا الوقت العصيب بالذات من غيرهم، نحن أصحاب: " الحارة " و " البيصارة " و " الدوارة " ؟

       العبرة في الحلوى، والفرق الوحيد الذي يوجد بين جلوسنا في المقاهي وجلوسهم في البرلمان أو " الباليمان " هو : أننا دائما نجلس لندفع وهم يجلسون ليقبضوا الملايين ويأكلون الحلوى.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

3 × خمسة =

زر الذهاب إلى الأعلى