الدين والحياةسلايدر

قراءات رمضانية..مساهمة علمية مغربية في تأصيل النوازل الفقهية لمسلمي أوربا

منتصر حمادة

كتاب نوعي في باب “التأصيل الفقهي” للنوازل الخاصة بمسلمي الساحة الأوربية، ذلك الذي أصدره مؤخراً الباحث المغربي عبد الحق الكواني، وجاء تحت عنوان “أحكام النوازل الفقهية للمسلمين بأوربا” (جاء في 850 صفحة)، وأصل الكتاب بحث تقدم به المؤلف لنيل شهادة الدكتوراه من قسم الدراسات الإسلامية بجامعة ابن زهر أكادير، بعنوان: “النوازل الفقهية للمسلمين بأوربا تأصيلاً وتنزيلاً” تحت إشراف الدكتور عبد الله البخاري.
جاء الكتاب موزعاً على شق نظري [يهم التعريف بفقه النوازل الخاصة بالمسلمين في أوربا وبيان خصوصية المسلمين في هذا السياق، وبيان الأصول والقواعد التي يؤسس عليها النظر الفقهي في الواقع الأوربي] وآخر تطبيقي [يهم تكييف النوازل الفقهية للمسلمين بأوربا]، موزعان بدورهما على بابين، وجاءت عناوين هذه الأبواب كالتالي: النوازل الفقهية للمسلمين بأوربا: التعريف والتصنيف والتوصيف؛ تكييف النوازل الفقهية الناتجة عن الإكراهات التشريعية والتنظيمية الأوربية؛ تكييف النوازل الفقهية الناتجة عن الإكراهات الواقعية والعرفية الاجتماعية (من قبيل مواقيت الصلوات في الدول الأوربية ذات الخطوط العالية، المشاركة السياسية في الدول الأوربية، حكم أداء الخدمة العسكرية بالدولة الأوربية، الإلزام بالتحاكم إلى المحاكم الأوربية، حكم التجاء النساء لبيوت النساء، رفع دعوى الاغتصاب الزوجي، خدمة الزوجة زوجها في ظل الأعراف الأوربية، انتساب الزوجة لإسم عائلة زوجها، الكفاءة في النكاح في السياق الأوربي، الزواج من دون ولي في السياق الأوربي، الاعتداد بقبول الطبيب غير المسلم، تبني أطفال اللاجئين في الديار الأوربية، التبرع بالأعضاء لغير المسلمين، التلقيح الاصطناعي في السياق الأوربي، حكم الاستفادة من بنوك الحليب في السياق الأوربي، حضور المناسبات العائلية في الكنائس، حكم أكل ذبائح غير المسلمين في البلاد الأوربية.


هناك عدة مقاصد من تأليف الكتاب، ذكر منها المؤلف سبعة مقاصد، نذكر منها مثلاً:
ــ الإسهام في سد الفراغ العلمي والبحثي في قضايا المسلمين بأوربا، وذلك بتقديم دراسة تمزج بين التنظير والتطبيع في مواضيع جد مرطبة ومعقدة.
ــ إشاعة خاب علمي هادئ ورصين يعالج قضايا المسلمين بأوربا بمقاربة شمولية تراعي تنزيل النصوص الشرعية على الواقع المعيش.
ــ العناية بهموم المسلمين في أوربا، والسعي لربطهم في هذه الديار بأحكام الشريعة الغراء في كافة شؤونهم، تحقيقا للتوازن الاجتماعي في هذه البلاد.
ــ محاولة إيجاد تسوية منطقية للعلاقة بين الفقه الإسلامي والسياق الأوربي، تساهم في صياغة ممارسة إسلامية مناسبة للواقع، وتسعى إلى تعميق روح الاندماج والتعايش مع الآخر.
ــ كشف الخلط الذي وقعت فيه بعض المدارس والمناهج في معالجة قضايا الحضور الإسلامي بأوربا، وإيجاد أحكام شرعية متوازنة ومناسبة مدعومة بالدليل الشرعي، متجردة من الهوى والتمييع، أو التشديد والتضييق.
بخصوص مفهوم النوازل، فهناك عدة تعريفات متداولة حوله، من قبيل الوقائع الجديدة التي لم يسبق فيها نص أو اجتهاد عمن سبق؛ وفي ذلك يقول الإمام مالك رضي الله عنه: “أدركت هذا البلد وما عندهم إلا الكتاب والسنة فإذا نزلت نازلة جمع الأمير لها من حضر من العلماء فيما اتفقوا عليه أنفذه”؛ أو قول ابن عبد البر وهو يتحدث عن المنهج الواجب اتباعه في استنباط حكم النوازل: “وفيه دليل على أن الإمام والحاكم إذا نزلت به نازلة لا أصل لها في الكتاب ولا في السنة كان عليه أن يجمع العلماء وذوي الرأي ویشاورهم”، ضمن مراجع أخرى وخاصة المراجع المحسوبة على المدرسة المالكية.
أحصى المؤلف مجموعة من الخلاصات والنتائج، نذكر منها النقاط التالية: ضرورة تجاوز مصطلح الأقليات المسلمة ومصطلح فقه الأقليات وذلك لما يترتب عنها من إشكالات وما يُسجل من اعتراضات [تطرق المؤلف للموضوع ببعض التفصيل بين ص 58 وص 60]؛ الفقه المعني بدراسة نوازل المسلمين بأوربا والغرب هو فرع من فروع الفقه الإسلامي العام، وعلى التحقيق فرع من فروع الفقه النوازلي؛ حاجة المسلمين في الديار الأوربية ملحة إلى العناية بدراسة نوازلهم من طرف مختصين يفهمون واقعهم ولهم معرفة بظروفهم وخصوصياتهم، والتحديات التي تواجههم؛ وجوب مراعاة المفتين في تعرضهم لقضايا ومسائل الوجود الإسلامي بأوربا مقصد تحقيق المواطنة، وسبل تأكيد الاندماج الفعال البنائي، والانتقال من مرحلة تأصيل شرعية الوجود إلى سبل تحقيق مشروع الوجود.
بخصوص الإكراهات المفضية لارتكاب المحرمات أو ترك الواجبات، فالأصل فيها حسب المؤلف هو وجوب تجنب المحرمات لأن نصوص التحريم عامة، وليس لها تمل بمكان دون مكان أو زمان دون زمان، وكذا النصوص الحاكمة بالوجوب، في أن ارتكاب بعض المحرمات يُباح عند تحقق الإكراه أو عند وجود الضرورة وريا الحاجة المنزلة منزلتها. أما الإكراهات التي تتعارض مع ما يدخل في إطار المباحات، فالخيار هو التوفيق بالامتناع عنها؛ أن يلتزم المسلم بالتشريع الأوربي تغليباً لمبدأ الوفاء بالعهد الواجب بحكم الإقامة والتجنس.
من الخلاصات أيضاً، الذي يترجح في النوازل الفقهية الناتجة عن الإكراهات القانونية والتنظيمية هو خضوعها لضوابط وأحكام قاعدة الضرورات والحاجة المنزلة منزلتها؛ فكلما تحققت الحاجة والضرورة الخاصة منها والعامة كلما كان الأخذ بالرخص مفتوحاً؛ وأخيراً، الذي يترجح في النوازل الفقهية الناتجة عن الارتباطات الأسرية أن مراعاة الأحكام القانونية في إنشاء الأسر وإنهائها؛ واجب شرعاً لما يتعلق به من ضمان الحقوق وسد رائع الفساد، والمآلات غير المرضية بسبب فساد الذمم وكثرة التلاعب بالحقوق واتخاذ أحكام الزواج والطلاق مطية لنيل بعض المكاسب في الديار الأوربية كالجنسية والإقامة الدائمة؛ في أحكام الأسرة خاصة يجب أن تراعي فيها قواعد المصلحة، وسد الذرائع، واعتبار المال؛ لأن مظاهر التلاعب بأحكام الزواج والطلاق لقضاء الأوطار وتحقيق المصالح والرغائب الشخصية كثيرة جدا في السياق الأوربي.
بعد هذه الوقفة مع أهم خلاصات ونتائج الكتاب، نأتي لأهم التوصيات، ونذكر منها على الخصوص: ضرورة الاهتمام بالنوازل الفقهية للمسلمين بأوربا، دراسة تكون نابعة من الواقع الأوربي ومن باحثين لهم المعرفة الكافية بأسباب نشوئها، وبمآلاتها؛ ضرورة إنشاء مراكز بحث علمي شرعية في الديار الأوربية تواكب قضايا المسلمين ونوازلهم الفقهية في شتى المناحي والمجالات، وتكون حلقة وصل مع المجامع الإفتائية في العالم الإسلامي بحيث تقوم بالتصوير الصحيح؛ توظيف باحثين مختصين للاضطلاع بمهمة الفتوى فيما يُعرض لهذه المراكز والجمعيات من قضايا وفتاوى وعدم ترك الأمر لكل من هب ودب؛ انخراط العلماء والأئمة بالديار الأوربية في تنظيم عملية الإفتاء وذلك في إطار عمل مجموعات؛ وتفادي الإفتاء الفردي خصوصاً فيما بتعان بقضايا الأحوال الشخصية.
من التوصيات أيضاً، تكوين لجان شرعية بالتنسيق مع الكفاءات العلمية من المحامين والمدرسين والأطباء قبل إصدار أي فتوى فيما يتعلق بالوجود الإسلامي لها ارتباط بالمجالات القانونية أو الطبية.. إلخ؛ مسؤولية المجامع والهيئات العلمية والمراكز الإسلامية، في إقامة دورات تدريبية، لتخريج فقهاء ومختصين في قضايا الأسرة فقها وقضاء، وتكوين مرشدين في مجال الأسرة لدراسة ومعالجة ما يحتاجونه من القضايا التي تطرح على المراكز والجمعيات بأوربا؛ وأخيراً، ضرورة السعي لدى السلطات لنيل الاعتراف الرسمي بالإسلام، والاستفادة من كامل الحقوق القانونية لممارسة الشعائر والالتزامات الدينية والتخلص من الإكراهات التي تتعارض مع الالتزام بالشرائع التعبدية في شتی المجالات.
هناك خصاص بحثي كبير يهم موضوع الكتاب، وهذه ميزة تحيبُ للمؤلف، كونه ساهم عملياً في مواجهة هذا الخصاص، في انتظار أعمال أخرى تدافع عن المشترك الإنساني هناك، وتتصدي لمعضلة الجهالات اليمينية والدينية وغيرها، أياً كانت مرجعيتها.

زر الذهاب إلى الأعلى