بلبلة وارتباك في تسمية المثقف
p.p1 {margin: 0.0px 0.0px 0.0px 0.0px; text-align: right; font: 18.0px Helvetica; min-height: 22.0px}
p.p2 {margin: 0.0px 0.0px 0.0px 0.0px; text-align: right; text-indent: 392.0px; font: 24.0px ‘Geeza Pro’}
p.p3 {margin: 0.0px 0.0px 0.0px 0.0px; text-align: right; text-indent: 392.0px; font: 24.0px ‘Geeza Pro’; min-height: 32.0px}
p.p4 {margin: 0.0px 0.0px 0.0px 0.0px; text-align: right; text-indent: 392.0px; font: 18.0px ‘Geeza Pro’}
p.p5 {margin: 0.0px 0.0px 0.0px 0.0px; text-align: right; text-indent: 392.0px; font: 18.0px ‘Geeza Pro’; min-height: 24.0px}
p.p6 {margin: 0.0px 0.0px 0.0px 0.0px; text-align: right; font: 18.0px ‘Geeza Pro’}
p.p7 {margin: 0.0px 0.0px 0.0px 0.0px; text-align: right; font: 18.0px ‘Geeza Pro’; min-height: 24.0px}
p.p8 {margin: 0.0px 0.0px 0.0px 0.0px; text-align: right; font: 18.0px ‘Lucida Grande’; min-height: 21.0px}
span.s1 {font: 24.0px Helvetica}
span.s2 {font: 18.0px ‘Lucida Grande’}
صلاح بوسريف
رغم أن المفهومَ حديث، ولم يكن معروفاً، ولا مُتداوَلاً في الماضي، بهذه التسمية، فصُوَر المثقف، تعدَّدت، وتنوَّعَتْ عبر الحِقَبِ. لم تبق صورة المثقف هي نفسها، بل إنَّها تلوَّنَتْ بحسب الأزمنة والأمكنة التي عَبَرَتْها، كما يَحْدثُ اليوم، في ما يجري من بلبلة وارتباك في تسمية المثقف، وفي الاتفاق على من يكون، وما المَهمَّمة أو المَهام التي يقوم بها، هل هو من يكتب ويقرأ، أم هو من ينتج الرموز والدلالات، أو الأفكار والخيالات، ويؤلف الكُتُب، أو يكتب في الصُّحُف والمجلات والمواقع الإلكترونية، ويظهر في وسائل الإعلام المختلفة، ويُحاضر في الندوات والملتقيات والتجمُّعات الثقافية..!؟
ثمة، دائماً، تَردُّد في حَسْم الصِّفَة، وفي وضعها في خانة يمكن بها معرفة الخوَّاص التي تُمَيِّز المثقف عن غيره ممن يمكن أن يلتبس به، من منتجي الأفكار، أو من يكتبون في بعض حقول الكتابة، مما لا يمكن اعتباره فكراً، ولا إبداعاً.
الصُّورَةُ، إذن، هي صُوَر، والوجه وُجوه، وهذا ما كان جَرَى عبر تاريخ المعرفة البشرية، حيث المثقف لم يكن واحداً، ولا مُحدَّداً بدقة، أو بنوع من الحَسْم، فهو ظل يُراوِح بين كل الصِّفات، بأكثر من صورة، وبأكثر من وجه. فحين نعود إلى المثقفين في صورهم القديمة، سنفهم لماذا بَقِيَ المفهوم غير دقيق، أو بقي واسعاً، بقدر ما فيه من ضَيْقٍ، فالمثقفون، كما يقول بول جونسون، كانوا رجال دين، وكُتّاب، ووُعَّاظ، وهم في أغلبهم كانوا حُرَّاساً للثقافة الكهنوتية.
في هذا الجرْد التاريخي، في الغرب، تحديداً، تبدو لنا وجوه المثقف، بنفس الصُّوَر التي يمكن أن نجدها في الثقافة العربية القديمة، فالمثقف كان هو الفقية، وهو «رجل الدين»، أو العالِم، وهو الواعِظ، وهو كاتب السُّلْطان، وهو الشاعر، والراوية، وهو المُؤَرِّخ وكاتب السِّيَر، وهو المُحدِّث، أو شارح النص الديني ومُؤَوِّله، وثمة من الوجوه ما يمكن أن يفيض عن هذا الحَصْر، ويَجُوزُه، لأن هؤلاء جميعاً، كانوا أصحاب فكر وخيال ونظر، وكانوا يُنْتِجُون المعاني والخيالات، ولا أحد منهم كان يقبل صفة دون صفة «العالِم»، بعكس الصُّوفية الذين الذين اكْتَفَوْا بصفة «العارِف»، ليس بمعنى المعرفة الدنيوية، بل بمعنى المعرفة اللَّدنية الغيبية، أو ما يمكن اعتباره معرفة بـ «مفاتيح الغيب» وأسراره، وهذه معرفة لا تُتاح بالتَّلْقِين والتَّعلُّم، لأنها معرفة تأتي من جهة القلب، لا من جهة العقل، وهي معرفة، لكنها معرفة سياقاتها هي غير سياقات المعرفة بالتثَّقُّف والاكْتِساب.
هذا المثقف، بهذه الوجوه، وبهذه الفُسَيْفُساء العديدة والكثيرة، كان مثقفاً موسوعياً، يذهب إلى كل المعارف، لا يُمَيِّز ماءً عن ماء، فالمعرفة عنده، بكل ما فيها من تنوُّع واختلاف، هي مَشْرَب واحد، وهي، في نهاية المَصَبِّ، تُفيد في مقاربة النصوص، وفي قراءتها، وفي فهمها، وتفكيكها، وفي خَوْض الأفكار، بكل ما في هذه المعارف من مفاتيح، بل من علوم ومفاهيم. فكما وجد النُّحاة في المنطق ما يَحُلّ بعض ما أشكل عليهم في تقعيد اللغة، وجد الفقهاء في النحو والتركيب، وما تجري به اللغة من نَظْم، ما يُسْعِفُهُم في قراءة القرآن، وفي الوقوف على ما بدا فيه عَوِيصاً، أو يحتاج إلى النَّظَر فيه من غير زاوية المعنى، فاللفط، له أسراره، وهو دَالٌّ في بلوغ المعنى واقتحامه، بما يُفِيد علاقةَ الرُّوح بالجسم، كما عند ابن رشيق القيرواني، في كتابه «العمدة…».
المثقف اليوم، بات حريصاً على التَّخَصُّص، أو على البقاء في المساحة التي اختارها كزاوية لسؤاله، ولما يقترحه من أفكار، وأي توسُّع، عنده، هو توسُّع، فقط، للاستشارة، وفي حدود معلومة، وليس توسُّعَ من يحفر في طبقات الأرض ليصل إلى ما تتأسس عليه من ماء أو ريح وهواء، وهذا أحد تعبيرات الثقافة اليوم، كون المعارف تَشَعَّبَتْ، وصار كل حقل من حقول المعرفة، مجرَّة قائمة بذاتها، أو هي بالأحرى، متاهةً، من دخلها دون خرائط، ربما لن يخرج منها، لأنها سَتَسْتَغْرِقهُ، ويذوب في سراديبها القَصِيَّة المُعْتِمَة.
إنَّ صور المثقف، هي صور يُمَيِّزُها التَّنوُّع والاختلاف، كما يُمَيِّزُها التبايُن، وربما الجَفَاء والخِصام، كما يحدث بين المثقف في مفهومه الحداثي التنويري، مثلاً، وهو مثقف لا يشرط صورته بعقيدة، ولا بدين، أو انتماء أيديولوجي وسياسي ما، بقدر ما يذهب إلى الأفق الكوني للمعرفة، التي هي اقتراح بشري، موجَّه إلى كل البشر، وليس إلى بشر دون غيرهم من البشر، كما يحدث عند المثقف التقليدي، الذي يرى في كل من يخرج من دائرة فكره، وعقله، ومن مائه الذي يربطه بالدين أو بالعقيدة، بعيداً كل البُعد عن العقل، وعن الصَّواب، الذي هو عنده «الإيمان»، بالمعنى الحصري الذي لا يقبل التوسُّع، أو التأويل، والانشراح.
من يكون المثقف، إذن، وفق هذا التَّشَوُّش، والتنوُّع، وهذا الاختلاف الذي قد يُفْضي إلى الخِلاف، أو ما اعتبرناه جفاءَ وخصاماً، كون التسمية، ما زالت، منذ ماضيها البعيد، تشبه الماء في تعريفه، فهو، لا لون ولا طعم له، رغم أن المثقف، سيكون، حتماً، هو من يتميَّز عن العوامِّ، بتعبير الجاحظ، بما يُنْتِجُه من رموز ودلالات، وما يقترحه من أفكار، سواء أكان أديباً، أو مفكراً، أو مُشْتَغِلا في الفكر الفلسفي، أو الفكر السياسي، أو في حقل الدين، أو حتى في الاقتصاد، وتدبير الإدارة، لأنَّ المعارف، في زمن التقنية، صارت متداخلة، بعضها يُعضِّد بعضاً، ويُفيد منه، وصار المثقف مُلْزَما بالانخراط في هذا التَّجاسُر والتَّصادي المعرفيَيْن، حيث لا سماء، ولا سقف له، بل هو صارَ، في هذا الوضع الجديد، مُقيماً في المَهَبِّ.