القبلية.. سرطان يفتك بالوطن

بقلم: محمد الحبيب هويدي
أي عقل هذا الذي يريد أن يعيدنا إلى زمن العصبية الجاهلية في القرن الواحد والعشرين؟ أي منطق ذاك الذي يقسم أبناء الوطن الواحد إلى “أصل” و”نسب”، وكأن التاريخ لم يقل كلمته، وكأن القرآن لم يحسم القضية بقوله:
“يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ” [الحجرات:13].
أية قيمة لنسب إذا كان أبو جهل – سيد قريش نسبًا – قد صار لعنة في ذاكرة الحق؟ وما جدوى أصل إذا كان إخوة يوسف – أبناء نبي – قد خانوا غدرًا وحسدًا؟ وما نفع سلطان فرعون الذي ادّعى الألوهية ثم صار رمزًا للظلم والطغيان؟ أليس قابيل ابن آدم أول من لوّث الأرض بدم أخيه؟
إذن فالشرف لا يُقاس بالدم ولا بالقبيلة، بل بالعمل الصالح وبما يقدمه المرء لأمته. وقد قال تعالى:
“وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ” [الأنعام:132].
ومع ذلك، ما زال بيننا اليوم من يصرّ على إحياء العصبية وكأنها صك شرعية سياسية واجتماعية. هؤلاء ليسوا حماة شرف القبيلة ولا ممثلي أصالتها، بل هم “مقاولو فتنة”، يتاجرون في الانقسام، ويقتاتون على صناعة الكراهية. القبيلة حين تُستعمل سلاحًا سياسيا تتحول إلى معول هدم للديمقراطية والتنمية، لأنها تُقصي الكفاءة وتُعلي الولاء الأعمى. وقد حذّرنا الله من هذا بقوله:
“وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ” [الأنفال:46].
الخطر الحقيقي ليس ذاك العدو الذي يتربص من الخارج، بل ذاك الذي يطعن وحدة الوطن من الداخل بخطاب قبلي مريض. والحق أن القبيلة لم تبنِ مدرسة، ولم تُشيد مصنعًا، ولم تؤسس جامعة. ما يبني الأوطان هو المواطن الحر، الكفء، حين يتحرر من أغلال العصبية ويؤمن أن المستقبل يُصنع بالعلم والعمل والإخلاص.
لقد آن الأوان لنرفع الصوت عاليًا:
لا مكان للقبلية في دولة المؤسسات.
لا مكان للعصبية في مشروع وطني يسعى إلى العدل والكرامة.
لا مكان لمروّجي الوهم في زمن التحديات الكبرى.
الوطن بحاجة إلى عقول تخطط لا إلى ألسنة تؤجج، إلى سواعد تبني لا إلى نفوس أسيرة أوهام التفوق القبلي. وقد قال تعالى:
“وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا” [آل عمران:103].
الخلاصة واضحة: الوحدة قوة، والقبلية ضعف، ومصلحة الوطن فوق كل اعتبار.
فإما أن نكون أمة متماسكة تتقدم، أو أن نظل أسرى جاهلية تجرنا إلى الخلف. والتاريخ لا يرحم المتقاعسين، والأوطان لا تُبنى على العصبية، بل على الكفاءة والعدل والحرية.