مفاتيح لتفعيل الخطاب الملكي وتجاوز أعطاب النموذج التنموي المغربي
منتصر حمادة
عندما يعلن ملك البلاد، باعتباره أعلى هرم السلطة، بأن النموذج التنموي المغربي أصيب بداء الفشل، فمعنى ذلك أن الحدث جلل، وأن القادم من تطورات، من المفترض أن تكون في مستوى هذا الإنذار.
نقول هذا بصرف النظر عن طبيعة هذه التطورات، من قبيل الإقالات والمتابعات القضائية وما جاور هذه التوقعات التي لا زالت حتى حدود اللحظة في مقام التكهنات الإعلامية، إلا أنها تحظى بحالة كبيرة من القبول والترقب لدى الشارع، من فرط ارتفاع مؤشرات الاستياء من أداء المؤسسة الحكومية من جهة، ولائحة عريضة من المؤسسات العمومية من جهة ثانية، وهي المؤسسات (الحكومية والعمومية) المعنية بتعديلات يتجاوز مداها ما اصطلح عليه إعلامياً بـ"الزلزال السياسي" على هامش تفاعل صناع القرار مع أحداث الحسيمة.
يقتضي الخطاب الملكي الأخير، التوقف المؤرق مع مجموعة من الأسئلة، يتضح أنها غائبة في التداول لدى النخب المعنية، وخاصة النخبة السياسية والاقتصادية، ومنها الأسئلة التالية:
ــ كيف وصلنا إلى هذه النتائج السلبية التي تجعل ملك البلاد يؤكد أن نموذجنا التنموي فاشل؟
ــ ما العمل حتى نتجاوز هذا المأزق التنموي البنيوي، والذي يأتي في ظرف زمني إقليمي مضطرب، ولا يحتمل الكثير من ضياع الوقت؟
ــ ما هي طبيعة الكفاءات الوطنية التي تقتضي المرحلة المغربية الحرجة أن يتم إدماجها في المؤسسات سالفة الذكر، بأفق إصلاحي مختلف عما كان يصدر سابقاً عن المسؤولين في المؤسسات ذاتها؟
واضح أن الخطاب الملكي توقف بالتحديد عن السؤال الثالث، لأنه سؤال الساعة والساحة، وواضح أن هذا السؤال بالذات، هو الذي يشغل أغلب النخب المعنية بالتعديل، ومعها النخب التي تبحث أو تهرول نحو الظفر بهذا المنصب أو ذلك، لولا أنه ثمة محددات لا بد من أن تؤخذ بعين الاعتبار، حتى نخرج شيئاً فشيئاً من مقام الفشل التنموي، بإقرار المؤسسة الملكية بداية، وإقرار تقرير البنك الدولي لاحقاً.
سوف نتوقف عند محدد واحد فقط، قبل العروج على مقامين من التفاعلات الإصلاحية المرجوة، تهم الأولى الأفق القريب، بينما تهم الثانية الأفق البعيد.
يتعلق هذا المحدد بعدم الرهان على نفس الأسماء التي تسببت أو تتحمل مسؤولية في هذا الفشل البنيوي، ولنذكر مثالاً دالاً، يهم أجواء فصل الصيف والعطلة وما إلى ذلك، حيث إن أي متصفح لبعض النقاشات والتفاعلات الرقمية التي تعج بها مواقع التواصل الاجتماعي، سيعاين حالة تذمر من أداء القطاع السياحي، إلى درجة عقد مقارنات بين السائد لدينا مع السائد في إسبانيا وإيطاليا وحتى البرتغال، بل نقرأ دعوات إلى عدم مقارنة الأجواء في المصاريف والخدمات، لأنه لا قياس مع وجود الفارق، والتفكير الجدي في قضاء العطلة بالخارج، وهذا هو المعمول به فعلاً مع أرقام دالة تصدر بين الفينة والأخرى، تهم عدد السائحين المغاربة الذي يشدون الرحال إلى الخارج.
نحن أمام فشل صريح لأداء المسؤولين عن القطاع السياحي، وقس على ذلك السائد في العديد من القطاعات، التعليمية والصحية وغيرها، ولا تخرج هذه الحالات السلبية عن أحد مضامين الخطاب الملكي وتقرير البنك الدولي، أي إننا إزاء تطبيقات أو مؤشرات على فشل النموذج التنموي المغربي.
آن الأوان للتوقف عند بعض المفاتيح النظرية للخروج من عنق الزجاجة إياه:
هناك محطتان أساسيتان في هذا السياق، تهم الأولى سؤال الرؤية أو التصور أو الاستراتيجية التي من المفترض أن تعتمدها الدولة في صياغة نموذج تنموي بديل، وهي محطة شاملة وشاملة، مقابل محطة ثانية، تبقى ثانوية ومرحلية، تهم ما سيتم الإعلان عنه من مبادرات في غضون الأسابيع القادمة، من قبيل تعيين مسؤول وإقالة آخر.
بتعبير آخر، تهم المحطة الأولى أداء الدولة في المنطقة، من خلال الانخراط في منافسة قوى إقليمية، أعلنت منذ عقد أو أكثر على رقع مشروع تنموي محلي وإقليمي، والنتيجة أنها أصبحت قوة إقليمية بشكل أو بآخر، منها المشروع الإيراني التوسعي والمشروع التركي التوسعي.
أما المحطة الثانية، وهي حديث الساعة حالياً في المغرب، فلن تخرج عن سلسلة تعيينات وإعفاءات وإقالات وربما متابعات واعتقالات، وهي "أعز ما يطلب حالياً"، بل ثمة انتظارية كبيرة لدى الرأي العام، ويبدو أنه لا مفر منها، لاعتبارات عدة:
ــ تكمن أولى هذه الاعتبارات في سحب البساط عن خطاب العدمية والتيئيس ذلك الذي يسود الهوى العام، والذي تؤكده الآراء المتداولة في مواقع التواصل الاجتماعي؛
ــ من الاعتبارات أيضاً، إعادة الأمل للمشروع الإصلاحي الذي تبناه الملك محمد السادس مباشرة بعد توليه العرش، والذي تميز حينها بإطلاق مجموعة من الأوراش السياسية والحقوقية والاجتماعية والاقتصادية والدينية، قبل أن يتعرض لما يُشبه عرقلة مباشرة بعد أحداث "الربيع العربي"، لأن المغرب حينها، على غرار باقي دول المنطقة، دخل منطقة مكهربة استراتيجياً، عنوانها تفعيل مشروع "الفوضى الخلاقة"، بحيث أصبحت جميع دول المنطقة مستهدفة، بلا استثناء، بل أفضت إلى سقوط بعض الدول في مقام "الدول الفاشلة"، كما هو الحال مع النموذجين الليبي واليمني على الخصوص، دون الحديث عن نماذج أخرى مهددة بالفعل.
ــ كما نجد ضمن لائحة الاعتبارات، سحب البساط عن تأثير الخطاب الإيديولوجي السائد في المغرب، وخاصة من طرف الإيديولوجيتين الدينية (جماعة "القومة" و"الخلافة") والمادية ("النهج" و"الطبيعة" مثلاً)، وهو الخطاب الذي يتغذى على حالات الاحتقان واليأس والعدمية، وقد لاحظنا ذلك بشكل جلي خلال الآونة الأخيرة. [في هذا السياق، نقرأ الحملة التي انخرطت فيها مجموعة من الحسابات الإسلامية الحركية، ضد وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، عبر شيطنة خطباء الجمعة، والدعوة إلى البحث عن بدائل، وواضح أن البدائل المعنية هنا، لا تعدو أن تكون دعاة المشروع الإسلامي الحركي، رغم أن العديد من هؤلاء يشتغلون في المؤسسات الدينية أساساً، لولا أن عقلية الاختراق والتمكين لا يمكن أن ينفصل عنها هؤلاء].
بالنتيجة، نحن أمام محطتان مفصليتان في الأداء الإصلاحي للدولة المغربية عما قريب:
ــ محطة أولى، ثانوية أو مؤقتة، عنوانها "زلزال سياسي" يطال أداء المؤسسة الحكومية وأداء باقي المؤسسات العمومية، ومعها المجالس المنتخبة المسيرة لكبرى المدن المغربية، حتى لا نتحدث عن جميع المدن، لأن هذا أمر صعب في المرحلة الحالة؛
ــ ومحطة ثانية ومفصلية، تهم الأداء الدولاتي للدولة المغربية، في الداخل والخارج، لأن الحديث عن فشل النموذج التنموي لا يهم الداخل وحسب، وإنما له تبعات على صورة المغرب إقليمياً ودولياً، وخاصة التبعات الاقتصادية والاستراتيجية، بما يقتضي التفرغ لصيانة "الاستثناء المغربي" كما كان يُصطلح عليه إلى غاية وقت قريب، والتأسيس لمشروع مغربي، انطلاقاً من مقومات نملكها بالفعل.
مرحلة حساسية يمر منها المغرب، على إثر الإشارات التي جاءت في الخطاب الملكي الأخير، ونزعم أنها مرحلة تاريخية، سيكون لها ما بعدها على أداء الدولة، بمؤسساتها ورجالاتها ومجتمعها.