الرأي

ضرورة العودة إلى حكمة البدايات في حزب وطني كبير

بقلم: يونس التايب (*)

في سياق يطغى عليه هاجس العزوف بشكل مُقلق وغير مقبول، نشأت يوم 8 غشت من سنة 2008، تجربة حزبية جديدة بالمغرب، اختار لها المؤسسون اسم "حزب الأصالة والمعاصرة". كانت الرغبة وطنية صادقة لإحداث طفرة في العمل الحزبي، واستقطاب أطر وكفاءات مختلفة ومتكاملة، خصوصا ذلك الجزء الكبير الذي لم يسبق أن انخرط في الفعل السياسي الحزبي. وكان الهدف هو تقديم "عرض سياسي" جديد وراهني، لتجاوز حالة النفور من العمل الحزبي، وتفادي أن يرتبك المشهد السياسي وتختل معادلات تطوير البناء المؤسساتي وتعزيز الديمقراطية آنذاك.

كانت الانطلاقة، بسقف عال من الطموحات، وحماس مرتفع، وآمال كبيرة، شحذت الهمم لعمل كبير. مرت أكثر من عشر سنوات، بنجاحات أكيدة في جوانب عديدة، وإخفاقات واضحة في جوانب أخرى. استطاع الحزب أن يُقنع في أمور، ولم يستطع أن يُقنع في أمور أخرى كثيرة، خصوصا وأن المسار لم يكن سهلا ولا هادئا، في واقع حزبي لم يقبل بسهولة بفاعل جديد وُلد كبيرا وأتى بطموحات وتنافسية عالية. توالت، إذن، تحديات الواقع وامتحانات المحيط، بعضها كان جليا ومقبولا، وبعضها ظل مُستترا وغير مفهوم ولا مقبول. لكن، الكل مُجبر على الاعتراف بأن عشر سنوات من التواجد تظل مدة قصيرة جدا، ومن الصعب، بل من الظلم، تقييم التجربة بنفس معايير تقييم تجارب سياسية أخرى ممتدة منذ عشرات السنين.

ومرت المحطات تلو الأخرى، بما لها وما عليها، إلى أن جاء القرار المفاجئ للأمين العام السابق، السيد إلياس العماري، بالاستقالة من مهامه. شكل الحدث رجة كبرى زلزلت الحزب وأوقفت تقريبا ديناميته لشهور عديدة. ولكن، رغم كل شيء صمد المناضلون واستمروا يتطلعون إلى ما سيأتي، ولم ينقسموا ولا تخاصموا ولا تشتتوا. ثم كان الدرس الديمقراطي الذي تحقق يوم 26 ماي 2018، والذي قال بشأنه الأمين العام الجديد، السيد حكيم بن شماس: "لقد كانت هذه اللحظة تاريخية، انتصرت فيها القيم التي تجمعنا والمبادئ التي نحن أوفياء لها، وليس أقلها التدبير الديمقراطي لاختلافاتنا، ضد ثقافة التبخيس والتشكيك في قدراتنا الجماعية"، لينطلق العمل بعزم كبير على إحداث قطائع تعزز العمل المؤسساتي وتساعد في إنتاج الفعل السياسي بمنظور مختلف.

تحركت كل تنظيمات الحزب وهيئاته، وعلى رأسها المجلس الوطني برئاسة السيدة فاطمة الزهراء المنصوري، وبدلت لجان المجلس جهدا كبيرا لاستدراك الوقت الضائع. كما تحرك رؤساء ومنسقوا المنتديات ما استطاعوا بعزيمة وصبر. وظل أكثر ما يبعث على التفاؤل هو تطور أداء ممثلي الحزب بمجلسي البرلمان، الذين سجلوا حضورا لافتا، تصاعدت جودته ونجاعته مع مرور الوقت. كما كان لتحرك الحزب ميدانيا، تدبيريا وإعلاميا، عبر ديناميكية عمل رؤساء الجهات الخمسة، وهم قيادات من الصف الأول في حزب الأصالة والمعاصرة، وكذا عبر المجالس الإقليمية ومجالس الجماعات والغرف المهنية التي يرأسها ممثلوا الحزب، وعبر الأمناء والمنسقين الجهويين والإقليميين، وعبر مسؤولي منظمات نساء وشباب الحزب، أثـر كبير في عودة الروح وتفعيل جدارة الحزب بالتموقع كثاني قوة سياسية في البلاد.

لم تخل المرحلة من اختلافات عادية بشأن أمور عديدة، شهد الجميع كيف أمكن تجاوزها، ليلة 5 ينايـر 2019، بمستوى أخلاقي رفيع، وسمو أداء قيادات الحزب، بما مكن من تحقيق توافقات تنظيمية وسياسية هامة، بكثير من التجرد والبصيرة، وحس عال من المسؤولية. وانطلق المكتب الفيدرالي برئاسة السيد محمد الحموتي، في بلورة برنامج عمل يستند على تفعيل مقتضيات خارطة الطريق التي أعدها الأمين العام، وانطلق تنفيذه عبر عمل ميداني للتأطير والتعبئة والتواصل مع المناضلين في الأقاليم والجهات. وفجأة دخل الحزب، قبل ثلاثة أشهر، إلى مرحلة خلاف تصاعد ليتحول إلى حالة دراماتيكية صدمت الجميع بحدتها، خصوصا وأنها لم تنشأ عن تباين جذري في "التصور السياسي"، أو في "الرؤية المذهبية". مما جعل جميع الأطراف داخل الحزب، بل حتى بعض خصوم الحزب السياسيين، غير راضين عما آلت إليه الأمور بعد أن انقسمت الذات الواحدة إلى نصفين، وانطلق سجال لا نرضاه للجميع، بغض النظر عن ما يعتبره هذا الطرف أو ذاك من "قراءات" لأسباب الوضع وحيثياته.

وإذا كان هذا التذكير الموجز مُهما، فإن الأهم بعد كل هذه الأسابيع من التصعيد، أن يدرك الجميع أن الظرف الوطني الحالي خاص جدا، وأن ما يطرحه من تحديات يتطلب إدراكا سليما للأولويات الوطنية التي تستحق تركيز الفاعل الحزبي والسياسي. لذلك، ورغم كل ما جرى من أمور لا تسُر، طبعتها القسوة الزائدة في حق البعض، والانفعال القوي أحيانا، والتشكيك بسند أو بدون سند، والتشهير المتجاوز لمنطق الخلاف، وخروج الخصام من الدوائر التنظيمية الداخلية إلى ساحات الإعلام… رغم كل ذلك، يحذوني يقين كبير في حتمية أن يتم تصحيح المسار الآن، وتحقيق المصالحات الواجبة فورا، ووقف عبثية المشهد الذي أساء إلى العديد من الأشخاص، هنا وهناك، ومس كرامتهم بشكل مُهين لا يستحقونه بتاتا، ولا يمكن القبول به لأي كان منهم بدون استثناء. ناهيك عن أن كل ذلك أساء إلى صورة فكرة سياسية جميلة مشروعة، لا تستحق أن ينحدر بها أي كان، إلى قاع مجهول المعالم.

لذلك، أتطلع إلى أن تُساهم حكمة الجميع، وشجاعتهم في تحمل مسؤولية الاعتراف بما لم يكونوا موفقين فيه من مواقف واجتهادات خلال الأسابيع الأخيرة، في استعادة روح "ليلة 5 يناير"، بكل شرعياتها، وبنفس الأخلاق العالية التي ميزت الفاعلين الأساسيين فيها، وعلى رأسهم الأمين العام للحزب، والأمين العام بالنيابة السيد أحمد اخشيشن، والسيدة رئيسة المجلس الوطني، والسيد رئيس المكتب الفيدرالي، وأعضاء المكتبين السياسي والفيدرالي جميعهم بدون استثناء. نعم جميعهم بدون استثناء. ليس في ذلك عيب بتاتا، لأن الخلاف والصراع وارد في كل التنظيمات السياسية. لكن التاريخ المُشرف سيكتبه فقط من يستطيعون أن يضعوا حدا للانفعال والتوجس، ويمـدوا يد الأخوة والتصالح ل"خصومهم"، رغم الأذى وألمه. بذلك سيقال أنهم استطاعوا وقف تشتيث الجهود والطاقات، وتحييد "الفتنة والفرقة والأحقاد"، وأعادوا فرض الاحترام المُستحق جدا من الجميع للجميع، بدون استثناء. وبذلك ستتجدد الثقة في الذات وفي الآخر، وسيصير ممكنا استثمار مساحات الاتفاق، واعتماد خيارات تحفظُ رصيد البناء الجماعي المشترك، والتأسيس لمستقبل تنظيمي يسع الجميع، بتوازن بين "الطموحات" و"الكفاءة" و"الاستحقاق".

وسيكون مُستغربا أن يصُعب ذلك على عزيمة المناضلين الذين ظلوا، منذ البداية، مناصرين لثقافة "المصالحات الشجاعة"، وأوفياء لشعار بناء "وطن يسع جميع أبناءه". ولا أظن أنهم سيعجزون، الآن، عن أن يسعهُم حزبُهم، ليدافعوا جميعُهم من داخله، عن فكرة البدايات الجميلة، وتطوير حمولتها وتحيين رهاناتها، حتى تنبعث من جديد على قواعد مُبتكرة، وعلى ركائز مؤسساتية حقيقية، وشرعية تلبي نداء المستقبل، وتحفظ لكل مكانته بعيدا عن أي شخصنة للصراع.

ولأن تجربتي المتواضعة علمتني أن بعض "الانتصارات" لا تعدو أن تكون انتكاسات أخلاقية وقيمية كبرى، وهزائم استراتيجية حقيقية، حتى وإن بدت غير ذلك، كما أن بعض "الهزائم" تكون رحمة لأنها تتيح فرصة للتصحيح والبناء والتجديد، وشحذ القوى، في أفق عودة مظفرة أكيدة، ولو بعد حين، أعلم أن هذه "المعركة" لن تنتهي بمُنتصر ومُنهزم، بل ستنتهي بقتل فكرة جميلة، وإنهاء طموح سياسي راق تحتاجه البلاد، كما تحتاج لكل التعبيرات السياسية التي تحترم ثوابت الوطن. ولا أظن أن في حالتنا هاته، من المنطق أصلا أن نقبل الحديث عن "انتصارات" و"هزائم" بين الإخوة، حتى نفرح لهذا، ونتشفى في ذاك، أو ننتصر لهذا ونرجو سقوط ذاك. 

ربما يكون أملي طوباويا بمنطق منظومة "اللاقيم" التي أصبحت غالبة في زمن المصالح الآنية. ولكنني، وأنا القابع في الظل والمُبتعد عن أي سجالات، وبما تراكم لي من معرفة بتفاصيل مرجعية تساعد على فهم عدة أمور لا تظهر معالمها، سأظل أدافع عن واجب الحفاظ على الاحترام والتوقير المستحق من الكل للكل، والمودة لجميع "المختلفين والمتخاصمين"، وكذا واجب حفظ حديث المجالس أيام الود والتآخي، وعدم تغليب الغضب والطموحات على العقل وفضيلة التروي، وعدم جعل الشنآن يمنع واجب العدل واحترام الحقوق في زمن الاختلاف.

وعليه، أجدد الدعوة الأخوية الصادقة للأفاضل الحكماء المؤسسين والقياديين، وشباب الحزب ونساءه، ومناضلاته ومناضليه جميعهم، في كل الجهات والأقاليم، كـل باسمه الغالي، وهُم يعلمون كم أحمل لهم من المودة والتقدير، أشد على أيديهم وأدعوهم إلى إصلاح ذات البين ما استطاعوا، ومنع المس بكرامة أي كان، وتشجيع العودة إلى رشد الحكمة والنقاش الهادئ، وولوج دائرة الفعل الإيجابي المؤسساتي الذي يستحضر الرصيد النضالي المشترك، ويحفظ العلاقات الإنسانية، لأنها أبقى وأعمق مما قد توحي به الخلافات. وبذلك سيتسنى للجميع التركيز، في المرحلة القادمة، على الأهم، والذي أظن أن كل المؤسسين والقياديين والمناضلين متفقون عليه، ألا وهو:

1/ استمرار انخراط الحزب في الدفاع عن الثوابت الوطنية، وعن المصالح الاستراتيجية لبلادنا، والمساهمة في تعزيز البناء الديمقراطي والحقوقي الرصين والهادف.

2/ تملك الشجاعة لتصحيح الأخطاء، وبناء المستقبل على قاعدة الثقة والتعاقد حول برنامج سياسي وتنظيمي مضبوط.

 3/ اعتماد منهجية حكامة تنظيمية واضحة، تكون الديمقراطية الداخلية قوامها، دون إقصاء ولا تهميش ولا تسفيه لكل الأراء والتصورات والمبادرات الجادة.

4/ تكثيف الاستعدادات للاستحقاقات السياسية والانتخابية الهامة القادمة، بعرض سياسي قوي وجذاب، وبتدبير محكم للتنظيم.

5/ إعطاء المثال في رد الاعتبار للعمل السياسي عبر تجديد النخب، واحتضان الكفاءات الجادة، وخلق شروط عودة التوهج للديمقراطية التمثيلية، من خلال إبداع تدابير تعيد الثقة وتشجع المواطنين على الانخراط والمشاركة السياسية والمساهمة في تتبع تدبير الشأن العام، محليا وجهويا ووطنيا.

6/ توفير شروط العمل بغية بلورة تصورات فيها إبداع وتجديد وابتكار لسياسات عمومية بديلة تحقق الكرامة والتنمية والتقدم لبلادنا.

و لأن المواطنين، وهم يتابعون مستجدات الحياة الحزبية ببلادنا، لا يعترفون لأي "فاعل سياسي"، كيفما كانت هيأته ومرجعيته، بما يحققه أبناءه من "غلبة" تتظيمية فيما بينهم، تُلهيهم عن خدمة الصالح العام وتأطير المواطنين لتحقيق التنمية والكرامة، فإنني لا أشك في قدرة أصدقائي، بوعيهم السياسي وبحس المسؤولية الوطنية، على تجنب خطيئة النسف الكامل لما تحقق من تراكمات ومكتسبات تنظيمية وسياسية، إذا هم استمروا في طريق الشقاق والبحث عن الغلبة، عوض تغليب العقل والعودة إلى جادة الصواب. ذلك شرط الإبقاء على حظوظ التموقع كجزء أساسي فاعل يساهم، إلى جانب قوى سياسية وطنية وديمقراطية أخرى، في خدمة الوطن وتنميته، والتصالح مع المواطن والمساهمة في الإقلاع الشامل الذي تحتاجه بلادنا.

و ذلك، أيضا، شرط الإبقاء في صفوف الحزب على عدد كبير من الأطر والنخب والكفاءات، التي سئمت مما يجري، وأصبحت قاب قوسين أو أدنى من المغادرة إلى فضاءات تنظيمية جديدة تتيح خدمة ثوابت الوطن، وتمكنهم من الدفاع عن فكرة الأصالة والمعاصرة من مواقع أخرى.

أرجوكم كونوا حكماء كما عهدكم الجميع، وأغلقوا هذا القوس السلبي حتى لا يفقد البام قدرا كبيرا من الذكاء الفردي الذي يحتاجه ليبني بذكاء جماعي مؤسسة حزبية قوية. أغلقوا القوس بإحكام، وإلى غير رجعة، حتى يقتنع "الخفي والجلي" ممن ظلوا يتوجسون من هذه التجربة السياسية، بأنها نضجت بما فيه الكفاية لتكون جزءا في تدبير الشأن العام، بروح المسؤولية العالية والقدرة على تحقيق أهداف الإصلاح والإقلاع الشامل. 

(*) عضو المجلس الوطني لحزب الأصالة والمعاصرة

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

7 − ثلاثة =

زر الذهاب إلى الأعلى