غير مصنف

على هامش قانون المالية: الأمني مقابل الاجتماعي أو المعادلة المغلوطة…

عبد الحميد جماهري

استهلال لا بد منه
يسترعي الانتباه- في جزء من النقاش السياسي والبرلماني والمدني حول قانون المالية – الإصرار على انتقاد ميزانيات بعينها، ومنها ميزانيتا الدفاع والأمن…
في بلاد مثل بلاد المغرب، وبالمحيط السياسي والإقليمي والجيواستراتيجي الذي تسبح فيه، وبقضية الصحراء التي تمثل من جسد الجغرافيا 59 % من التراب الوطني، هل يكون من المعقول حقا أن نتحدث عن ميزانية الدفاع والتقليص منها أو «التشكيك الأملس» فيها؟..
الاعتقاد الأسلم، أن نقول إن الجرأة المطلوبة هنا -لا سيما منظمات ونخب يسارية تملأ الفضاء العمومي – هي جرأة فكرية في النظر إلى الواقع الحي والصعب، بدون الاستناد إلى مضمرات تجعل من الوطن ومن الدفاع عنه، مسألة تخضع للتقدير الإديولوجي لحرب الطبقات!!!!
من يناقش الميزانيات، يجب أن يناقشها من صلب الأجندة الوطنية، وبناء على محيطها الإقليمي والجيواستراتيجي، لا من خطاطات مفترضة …مبنية أحيانا على نوع من «الخجل الايديولوجي» أمام الواقع وقضاياه المستجدة..
لن نتحدث عن موجة الاضطرابات الكبرى التي دخلها العالم، ولا يمكن أن نقول إننا خرجنا منها، فتلك موضوعة تشكل قلب الخطاب العسكري لدى الدول في الكون كله…
**
الأمن: المعادلة المغلوطة…
عند الحديث عن ميزانية الأمن، ولا سيما من طرف اليسار، وقواه وتلاوينه، تناقش الميزانية كما لو أنه يحسن بنا، كيساريين أن نضع بالضرورة معارضة صارمة بين الضرورات الأمنية وبين تقوية الطابع الاجتماعي للدولة؟
والحال أنه علينا أن نطرح بدون مركبات ماضوية، السؤال الذي لا بد منه: هل الرفع من الخدمات الصحية والتعليمية والشغل مثلا، يمر بالضرورة عبر تخفيض ميزانية الأمن ووظائف الأمن وصحة الأمن وتعليم الأمن، أو على الأقل تأجيل النظر فيها؟..
ولماذا علينا، جدليا، البحث عن تناقض ثانوي بين قطاعين حيويين مثل الصحة والأمن، عوض البحث عن تناقض استراتيجي بينهما وبين الإنفاق العمومي الزائد عن الضرورة، أو توسيع البهرجة الكبيرة في التدبير والتسيير والزيادة بعشرات الملايير من الدراهم في ميزانيات التسيير؟
البحث عن تقليص ميزانية الدفاع أو الأمن بـ4 أو 5 % كان يمكن أن يعوض بالدفع بتقليص ميزانيات التسيير والرفاه المزعوم مثلا..
أعتقد أن تعقيدات الحياة الوطنية جعلت من الأمن مسألة مجتمعية بالأساس، بل محددا من محددات الاستقرار.
ولم تعد قضية مواجهات مع «منطق» الدولة ومنطق المجتمع.
لنسأل المغاربة اليوم عن مخاوفهم، وسنجد أن: هناك البطالة ولا شك
وهناك المدرسة، لكن هناك أيضا ضمان الأمن في الطريق إلى المدرسة وهناك أيضا ضمان الأمن إلى مقر العمل وإلى المستشفى..
لنطرح السؤال نفسه، الذي طرحناه حول الصحة والتعليم: هل الموارد المالية والبشرية التي وفرتها بنود القانون المالي، تكفي؟ بالفعل- لسد كل الخصاص، والقيام بالمهام كما يجب في مجال الأمن؟
أبدا ….
ويكفي رقم واحد لإقامة الدليل، وعلى ما لم يعد يحتاج إلى دليل في الواقع 28 شرطيا لكل 10 ألاف مواطن..
ونحن في نونبر 2019، تتوفر المديرية العامة للأمن الوطني على 70.935 موظفا، بمن في ذلك الموظفون الموجودون في بعثات خارجية والملحقون بإدارات أخرى والعاملون في مؤسسات التكوين وفي الشؤون الإدارية والتفتيش الخ الخ
الموجودون منهم في خط التماس الأمامي مع قضايا الأمن العام، لا يتجاوز معدلهم 28 شرطيا لكل 10 ألف مواطن، وهي نسبة ضئيلة جدا مقارنة مع اسبانيا مثلا التي يصل فيها 500 عن كل 10 آلاف مواطن..
وما دمنا نتحدث عن اسبانيا، فمبارياتها الكروية، التي لا تكون لحظات توتر أمني او اجتماعي كما هو حالنا كل أسبوع، تتطلب مابين 60 و80 موظفا حسب المباراة، بينما تتطلب مباراة الديربي البيضاوي عندنا تعبئة حوالي 4500. موظف من قوات حفظ النظام،وهي مسألة تفرض أعباء إضافية على مصالح الأمن!

هل يكون من المخجل أن ندافع عن توفير إمكانيات أكبر وموارد أكبر في هذه الحالة، مع ما نعرفه اليوم من عواقب لغياب الأمن؟
أبدا….
ولا يجب عن الفكر عموما أن يلغي هذه النقطة، بعد أن صارت في قلب المجتمع.
نكرر القول بأن الأمني اليومي جزء من المجتمعي وليس متعارضا معه..
ولقد انسحب مفهوم الأمن على كل المناحي، وصرنا نتحدث بتلقائية، وأحيانا كدليل على معرفة متفردة عن الأمن الصحي والأمن التعليمي والأمن المجتمعي، باعتبار أن المفهوم هو قاعدة في تقدير الشؤون الاجتماعية بله المجتمعية، لكن يبدو أن الأمن الأمني ! هو وحده في حد ذاته، نشاز أو تحول سلبي إن لم يكن مقاربة مرفوضة من طرف بعض اليسار الجديد..
*
علينا أن نفكر بعمق في إشكالات جعلت الأمن اليوم ضرورة ثمنها مرتفع كثيرا،
وهو أمن يتطلبه واقع الناس في مستويات عديدة ، ولاسيما منها الشعبية والمتوسطة، وتقوية قدراتنا الأمنية بتوسيع دائرة الطمأنينة؟
أليس الأمن اليوم مسألة اجتماعية بالمعنى الذي يجعله انشغالا لا يقل عن الصحة وعن التعليم وعن التشغيل؟
لنبدأ التشغيل: هل يعقل أن نستثني هذا القطاع من امتياز الجواب عن حاجة مجتمعية موجودة اسمها التشغيل ويقتصر ذلك على الصحة والتعليم والقطاعات المدنية نسبيا؟
بمعنى آخر هل ولد الشعب، ابن الأستاذ أو العامل أو الطبيب أو غيره عندما يشتغل في الصحة يكون إيجابا وعندما يشتغل في الأمن يكون أقل من ذلك أو مدعاة إلى الحيرة الايديولوجية من طبيعة الدولة؟…
كان يكفي أن ننتبه إلى أن المدير العام للأمن نفسه هو من وسط شعبي متوسط الحال، وكان يكفي البحث في المعطيات لكي نجد في المؤشرات الرقمية، المتعلقة ب »بروفايلات صفوف الشرطة، أن أكثر من 99 بالمئة منهم ينحدرون من وسط اجتماعي متوسط أو ضعيف..
هذه أولا
ثانيا: 55 بالمئة من إجمالي الموظفين والموظفات (38.890 موظفا) ينحدرون من المناطق القروية والمناطق الحضرية الصغيرة من مختلف أرجاء المغرب
***
إن استعادة سلطة الدولة، في حالات عديدة طرحت نفسها أكثر من أي وقت مضى، ونحن ندرك بأنها لا تقوم على القوة فقط.. بل على تآلف المغاربة وانسجامهم، مبنية على المشترك الوطني، التاريخ الانخراط في الحياة العمومية ، وعلى تبادل الثقة، الانصاف والعدالة ، التربية والحرية والاستقرار و…. الأمن!
والمعطيات الإحصائية، لا تفرق بين الصحة والتشغيل والتعليم، وبين الأمن ، ولا سيما إذا كان من مهامه توفير شروط الاستثمار، والسياحة وتأمين الممتلكات ، ومكافحة التهديدات الإرهابية الهادفة إلى ترويع الناس وإقحام المغرب في نادي الفوضى العامة في المنطقة والعالم..
ولعل السياق يخلق المعنى بأنْ تزامن هذا النقاش البرلماني والمدني، مع ما تكشفه المحاربة اليومية للإرهاب، والمستوى المرتفع لخطورته ..
هناك تقديرات بأن حصة الأمن من التشغيل ستتطلب من اللحظة الآنية إلى 2021 نقصا يفوق 7 آلاف منصب.. ويندرج في أسباب تقدير هذا العجز البشري والمادي، اتساع مهام الأمن الناجمة عن توسيع الطلب العمومي عليه سواء في الدوائر الموجودة أو تلك التي فرضها توسيع المجال الحضري، أو ما فرضه التطور الحضري في المدن الكبرى الشيء الذي أضحى يستوجب تأهيلا إداريا ومجاليا ..
وعليه،لا يكفي أن نسترخي في دفء ايديولوجي آمن، بدون أن نتساءل عن كلفته اليومية للمواطنين وللبلاد..
لا يمكن أن نسترخي في طمأنينة وانسجام «تاريخي» مع الماضي، بدون أن نسأل ما هي الكلفة الاجتماعية في استسهال هكذا موضوع ، والقفز عن حقائق واقعه..وما يشكله اليوم من استعصاء؟
نحن الذين طالبنا دوما بالتحليل الملموس للواقع الملموس، هل يمكن أن نلغي الواقع لكي نستريح في تماسك ايديولوجي يجعل من كل أدرع الدولة فائض قيمة اجتماعية يمكن التخلص منها؟..
لقد تبين أن قضية يغادرها اليسار، يملأها اليمين المتطرف هناك ، أو التوجهات المتطرف التعزيرية، التي تقوم مقام الدولة، وتسعى إلى تعويضها ميدانيا هنا.. كما أن أي انشغال جماهيري نلغيه، يزيد من غربتنا عن الناس..
انصتوا رحمكم الله إلى من حولكم، وانصتوا إلى أبنائكم وأمهاتكم وزوجاتكم وجيرانكم …ثم حرروا برامجكم وتدخلاتكم!

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

3 × 2 =

زر الذهاب إلى الأعلى