حاجتُنا إلى مغرب جديد
في عصر " الميديا" ومنصات التواصل الاجتماعي، وتدفق المعلومة وانتشارها بسرعة تكاد تشبه سرعة الضوء، وبكثافة تتجاوز قدرة المتلقي على استقبالها وفحصها بما يتوفر لديه من وقت داخل زحمة اليومي، أصبح المغرب (بلدنا العزيز) كباقي رُقَعِ العالَم بيتا من زجاج، وأضحتِ الحقائق (كل الحقائق)، بالرغم من التباسها وتداخلها وحتى زيْفِها أحيانا، شفافة وظاهرة للعيان. إذ لم يعد ممكنا في ظل هذا المد التواصلي والإعلامي الكاسح حجْبَ هذه الحقائق عن الناس (كل الناس) وجعلها مقتصرة في التداول على فئة قليلة دون غيرها.
لقد عملتِ الصورة ببلاغتها وقوة إقناعها وسرعة انتقالها ــفي المغرب وغير المغرب ــ على دَمَقْرَطَةِ المعلومة والرأي وجعلهما متوفرين للجميع. لم يعد من المُتعذّر بتاتا العثور على تلك "الإبرة المدسوسة في كومة القش" كما يقال، وفنّدَتِ الصورة كحقيقة كبرى للعصر الجديد كل المقولات، تداعتْ معها كل البلاغات القديمة وأشكال التضليل الإيديولوجي.
أصبحت عورات السياسيين وغير السياسيين مكشوفة بتفاصيلها للجميع. تهاوت الكثير من الخطابات، ولم يعد ثمة من شيء يختبئ وراءه هؤلاء المتاجرون في الدين والسياسة والمبادئ والذّمَم. بدأتْ تتساقط أوراق التوت التي كانت ــ بالكاد ــ تغطي عورات المتسلقين إلى نعيم المال والجاه والنفوذ. انكشف المستور وأصبحت الفرجة ــ بأقل تكلفةــ متوفرة وممكنة.
من هنا، يكون لهذا العنوان ــالمَطْلَب القديم/الجديد: " حاجتنا اليوم إلى مغرب جديد " وبرؤى جديدة أيضا أهميته القصوى وضرورته، بحثا عن وجه هذا المغرب المُشتهى والمحلوم به والعصي على القبض، وكأنه لغز أو سؤال استعصى حلُّه، طال انتظاره، أو ــبالأحرى ــ كاد جوابه أن يضيع بين متاهات لوبيات الفساد السياسي والمالي التي صممتْ سراديبَها بالكثير من الذكاء، وبطرق محكمة وبالغة التعقيد، أحكمَتِ الطوق بدورها على أعناق البسطاء من الناس وجيوبهم، ورهنت مصائرهم بالقروض وضيق ذات.
نحن الآن في "مغرب اليوم" مُجْبَرون ــأكثر من أي وقت مضى ــ على أجرأة هذا المَطْلب وتنزيل أجوبته ومقتضياته على أرض الواقع (في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والإعلام). نحن الآن في أمس الحاجة إلى "مخطط استعجالي" يُحْدِثُ بعض الانفراج في أفق هذا البلد الذي أصبح مهددا بالاختناق لا قدر الله. لكن "مخططنا الاستعجالي" في الإصلاح الشامل، والذي نتوق إليه لا ينبغي أن يكون صورة مكررة لمخطط التعليم الذي ابتلع الملايير من ميزانية الدولة، دون أن يتحقق ذلك الإصلاح المنشود.
نتطلّع فعلا وبالكثير من الحرقة والأمل إلى أفق جديد وجميل لهذا البلد الذي اخترنا الانتساب إلى وجهه الشاهق، والإقامة تحت سمائه بشكل طوعي وحبا فيه لا غير، بالرغم من تَلّبد هذه السماء التي نخشى أن تزيد ضيقا أيضا بالغيوم. أفق تطبعه المواطنة والنزاهة وقدْر معقول ــ على الأقل ــ من العدالة الاقتصادية والاجتماعية. هو المغرب/البلد الذي كان وسيظل وجَعَنا وأرقنا الجميل بامتياز، غصتنا التي تقف كلقمة شديدة المرارة أحيانا في الحلق.
نتمسك بالأمل فقط، لأن اعتقادنا أصبح اليوم ضرورة ملحة وراسخة أيضا، بوجوب ولوج المغرب إلى هذا الأفق الجديد، ليس بسبب هذا التطور الهائل والكمي في تدفق المعلومة والمعطيات وكشف ملفات الفساد فحسب، بل لأن ما يفعله الناهبون والمتأدلجون الجدد ولصوص الوطن، الذين يسرقون خيراته وأحلام أبنائه بيد، ويمسكون "المبادئ" باليد الأخرى أصبحت رائحته تزكم الأنوف. تماما كما يفعل أولائك الصهاينة المتدينون والمغتصِبون لما يُسَمُّونه بـ " أرض الميعاد " على حائط المبكى : يُصَلّونَ لله بالكثير من "التقوى" و"الوَرَع" و"الخشوع" وعَينُهم على خيرات البلاد والعباد: يدٌ للكتاب ويدٌ للزِّناد.
ولأن المغرب بشبابه الذي يعد بحق الثروة الحقيقية للبلاد، أصبح في أمس الحاجة إلى التجديد والتطهير وضخ دماء و"طاقة بديلة" وجديدة في عروقه، لا يمكن أن يحقق إقلاعه الحقيقي والمنشود من دون استيعاب الأفكار والطاقات المبدعة والمتجددة والخلاقة لهذا الشباب، فقناعتنا الراسخة الآن تكمن في أن البلد تنخره الشيخوخة في كلي شيء: لقد شاخت الكثير من الخطابات والبلاغات .. شاخت الأحزاب والنقابات .. شاخت التصورات والكثير من المقاربات والقناعات.. شاخت الشعارات والواجهات.. شاخت المآرب و"النُّخَب".. شاخت الأوصال والخِصال.. شاخت القيَمُ .. شاخ البرلمانيون والقياديون.. شاخ المنتخَبون والمتحزبون.. اليمينيون واليساريون.. الإسلاميون والعلمانيون.. شاخ " الجَمَل بما حمَل ".. شاخت بدورها "مؤسسات الوساطة" في المغرب والكثير من مؤسسات المجتمع المدني، هي التي يكون عليها الآن أن تجدد نفسَها أولا، كي تُجَدّدَ المغربَ وتجعلَه يلج أفق التحديث والتجديد والتغيير والإصلاح الحقيقيين من بابه الواسع: مغرب جديد، وبرؤى جديدة تتسع آفاقها للحرية والنقد والتعدد والاختلاف ومحاسبة الفاسدين. مغرب كما يشتهيه أبناؤه المخلصون لا غير.