قد يكون استخدام طريقة الحرمان من النوم كعلاج للاكتئاب الحاد أمراً غير متوقع، ولكنها الحل الوحيد الفعال مع بعض الأشخاص، كما أشارت ليندا غيدز:
يبدو أن هذه “العلاجات الزمنية” (علاج سلوكي يتمثل في تأخير وقت النوم) تعمل من خلال إبطاء الساعة البيولوجية، وعندها فإنهم يسلطون الضوء كذلك على علم أمراض الاكتئاب، وعلى وظيفة النوم بشكل عام.
يقول بينيديتي: “إن الحرمان من النوم له تأثير معاكس على الأشخاص الأصحاء، مقارنةً بالأشخاص الذين يُعانون من الاكتئاب”. إذا كنت تتمتع بصحة جيدة ولم تنم فستشعر بمزاجٍ سيء، ولكن إذا كنت ممن يعانون من الاكتئاب فإن عدم النوم سيساعدك على تحسين مزاجك وقواك الإدراكية بشكل سريع. يضيف بينيديتي بأن هنالك عيباً خفياً، فعندما تذهب للنوم وتعوض ساعات النوم الفائتة، فإن فرصة تعرضك لانتكاسة ترتفع إلى نسبة 95%.
نُشر أول تقرير عن أثر الحرمان من النوم على مرضى الاكتئاب لأول مرة في ألمانيا في سنة 1959، وقد شغل هذا الموضوع خيال بورخارد فلوغ – Burkhard Pflug، أحد الباحثين الواعدين من Tübingen بألمانيا، والذي اختبر أثره في أطروحته للدكتوراه وفي دراساته اللاحقة في فترة السبعينات، وأكد أن حرمان مرضى الاكتئاب من النوم بطريقة منهجية و قضاءهم ليلة واحدة مستيقظين قد يُبعدهم عن الاكتئاب.
أصبح بينيديتي مهتماً بهذه الفكرة كطبيب نفسي واعد منذ بداية التسعينات، وبعد سنوات قليلة ظهر عَقار بروزاك محققاً ثورة في علاج الاكتئاب. ولكن لم يتم اختبار هذا النوع من العقاقير على مرضى متلازمة ثنائي القطب إلا ما ندر. تعلّم بينيديتي من تجربة بيتر أن مضادات الاكتئاب غير فعَّالة بشكل كبير على مرضى متلازمة ثنائي القطب على أية حال.
كان مرضاه في حاجة ماسة لعلاج بديل، وكان مشرفه انريكو سميرالدي – Enrico Smeraldi، يحمل فكرةً في جعبته. بعد قراءته لبعض البحوث السابقة المتعلقة بالعلاج باليقظة، جرَّب نظرياتها على مرضاه وحصل على نتائج إيجابية. يقول بينيديتي: “لقد علمنا بأنها نجحت”، ثم يضيف “الأشخاص الذين لديهم تاريخ مرضي فظيع كانوا يتحسنون مباشرةً، كانت مهمتي إيجاد طريقة لجعلهم يبقون في تحسّن”.
اتجه بينيديتي وزملاؤه إلى المصادر العلمية للحصول على بعض الأفكار. اقترحت مجموعة من الدراسات الأمريكية أن الليثيوم قد يُطيل من تأثير الحرمان من النوم، لذا جربوا الليثيوم وتوصّلوا إلى أن 65% من المرضى الذين تناولوا جرعة من الليثيوم أظهروا استجابةً دائمة للحرمان من النوم عند تقييمهم بعد ثلاثة أشهر، مقارنةً بنسبة 10% من المرضى الذين لم يتم إعطاؤهم هذا العقار.
في حين أن قيلولة قصيرة قد تُضعِف من فعالية العلاج، بدأوا بالبحث عن طرق جديدة لإبقاء المرضى مستيقظين خلال الليل، وقد استلهموا الفكرة من الطرق المستخدمة في الطيران، إذ يُسلَّط ضوء ساطع على الطيّارين لإبقائهم يقظين، وقد كان له أثرٌ كبير على الحرمان من النوم بنفس الحجم الذي حققه الليثيوم.
قال بينيديتي: “لقد قررنا إعطاءهم الحزمة كاملةً، وكان التأثير رائعاً”. في نهاية التسعينات كانوا يعالجون المرضى بشكل روتيني باستخدام العلاج الزمني الثلاثي (triple chronotherapy) الحرمان من النوم والليثيوم والضوء. الحرمان من النوم يمكن تطبيقه ليلة بعد ليلة في الأسبوع، والتعرض للضوء الساطع يمكن تطبيقه لمدة 30 دقيقة كل صباح، ويمكن أن يستمر لأسبوعين آخرين، وما زال الأطباء يستخدمون هذا البروتوكول إلى يومنا هذا. صرّح بينيديتي: “يمكننا النظر لهذه الطريقة ليس بأنها حرمان الناس من النوم ولكن كتعديل أو توسيع دورة النوم والاستيقاظ من 24 إلى 48 ساعة. يذهب المرضى للنوم كل ليلتين، ويستطيعون النوم بقدر ما يشاؤون”.
أُدخل العلاج الزمني الثلاثي لمستشفى سان رفاييل لأول مرة في سنة 1996، ومنذ ذلك الحين جرَّبه الأطباء على ما يُقارب ألف مريض يُعانون من اكتئاب ثنائي القطب لم يستجيبوا للعقاقير المضادة للاكتئاب. تتحدث النتائج عن نفسها: وفقاً للمعلومات الحالية 70% من المرضى الذين يعانون من اكتئاب ثنائي القطب ولديهم مُقاومة ضد عقاقير الاكتئاب استجابوا للعلاج الزمني الثلاثي خلال الأسبوع الأول، و55% منهم كان لديهم تطور مستمر في حالة الاكتئاب بعد مرور شهر واحد.
إذ كانت مضادات الاكتئاب – في حال عملها – تتطلب شهراً كاملاً ليظهر مفعولها، لكنها تزيد من احتمالية الانتحار في الوقت نفسه، على عكس العلاج الزمني الذي يُنتج عادةً انخفاضاً فورياً ومستمراً للأفكار الانتحارية، حتى بعد الحرمان من النوم لليلة واحدة فقط.
شخَّص الأطباء حالة أنجلينا بمتلازمة ثنائي القطب لأول مرة منذ 30 عام، يومها كانت في أواخر الثلاثينيات. تلا التشخيص فترة من التوتر الحاد، إذ كان زوجها يواجه محاكمة قضائية في العمل، وكانوا قلقين بشأن الحصول على المال الكافي لدعمهم ولدعم أبنائهم. أُصيبت أنجلينا بالاكتئاب الذي استمر لقرابة الثلاث سنوات. منذ ذلك الحين أصبح مزاجها متذبذباً، وكانت مكتئبةً في أغلب الأوقات. تعاطت كميةً كبيرة من الأدوية – مضادات الاكتئاب – محسنَّات للمزاج، حبوب مضادة للتوتر، وأقراص منومة، الأمر الذي لم يُعجبها لأنها كانت تشعر وكأنها مريضة، ومع ذلك فإنها تقرُّ بهذا.
كيف يمكن لشيء بسيط كالبقاء مستيقظاً طوال الليل أن يُحدث هذا التغيير؟! فهم الآلية غير واضح، وتعليقاً على ذلك يقول بينيديتي: “ما زلنا لا نفهم تماماً طبيعة علاقة الاكتئاب بوظيفة النوم، إذ أن كلاهما يحدثان في مناطق متعددة في الدماغ، ولكن الدراسات الحديثة بدأت تسفر عن بعض الأفكار”.
يبدو نشاط الدماغ خلال النوم واليقظة مختلفاً لدى الأشخاص المصابين بالاكتئاب مقارنةً بالأشخاص الأصحاء، فخلال النهار يُعتَقد بأن علامات تعديل اليقظة الصادرة من النظام اليومي – الساعة البيولوجية الداخلية – قد تُساعدنا في مقاومة النوم، وذلك عند استبدالها بعلامات تعديل النوم في الليل. خلايا أدمغتنا تعمل في دوائر أيضاً، فنشعر بالحماسة الزائدة كردة فعل لأي مثير خلال اليقظة، بينما تتبدد هذه الحماسة عندما ننام، ولكن مع الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب ومتلازمة ثنائي القطب يبدو بأن هذه التقلبات خامدة أو غائبة.
يرتبط مرض الاكتئاب أيضاً بالتغيير اليومي لتوازن إفراز الهرمونات ودرجة حرارة الجسم، فكلما كان المرض شديداً، كانت درجة الاضطراب أقوى. ويتبع هذا النظام في المستوى الهرموني – مثل إشارات النوم- ساعة الجسم البيولوجية. وتتحكم بها مجموعة من البروتينات المتفاعلة الناتجة عن جينات ساعة الجسم البيولوجية، والتي تظهر بنمط متواتر خلال النهار، كما أن هذه البروتينات تتحكم بمئات العمليات الخلوية المختلفة، والتي تمكّنها من التواتر والتزامن وإعادة التشغيل والإيقاف مع بعضها. إن الساعة البيولوجية تدق في كل خلية في جسمك، بما فيها خلايا الدماغ، والتي يتم تنظيمها عن طريق منطقة في الدماغ تُدعى النواة فوق الحركية، وهي المسؤولة عن الاستجابة للضوء.
يُشرِف Steinn Steingrimsson-طبيب نفسي في مستشفى جامعة Sahlgrenska في غوتنبرج السويدية – على برنامج تجريبي في العلاج باليقظة- ويرى “أنه عندما يكون الناس مكتئبين بشكلٍ حاد فإن نظم ساعتهم البيولوجية يكون خامداً ولا يحصلون على الاستجابة الطبيعية من ارتفاع الميلاتونين في المساء، وترتفع لديهم مستويات الكورتيزول بشكلٍ ثابت بدلاً من انخفاضها في المساء”.
ترتبط عملية الشفاء من الاكتئاب بطبيعة هذه الدورات. يوضح بنديتي “أعتقد بأن الاكتئاب هو أحد الآثار المترتبة من الإحباط الأساسي لنظم الساعة البيولوجية والاستقرار الداخلي للدماغ، فعندما نَحرم مرضى الاكتئاب من النوم، فإننا نستعيد هذه العملية الدورية”.
ولكن كيف تحدث عملية الاستعادة؟ تُشير بعض الاحتمالات إلى أن الأشخاص المصابين بالاكتئاب يحتاجون فقط لضغطٍ إضافي للنوم لبدء تشغيل النظام البطيء، ويُعتقد أيضاً بأن ضغط النوم – حاجتنا للنوم – يظهر بسبب الإفراز المتدرج للأدينوسين في الدماغ، حيث ينمو خلال النهار ويرتبط بمستقبلات الأدينوسين في الأعصاب، وهو ما يجعلنا نشعر بالنعاس. إن الاقراص التي تحفّز هذه المستقبلات لها نفس التأثير، بينما الأقراص التي تحبطها – كالكافيين – تجعلنا أكثر يقظة.
لاكتشاف ما إذا كانت هذه العملية تعزّز تأثير مضادات الاكتئاب في فترات الاستيقاظ الطويلة أجرى باحثون من جامعة Tuftsفي Massachusetts تجربة على فئران لديها أعراض شبيهة بالاكتئاب. أُعطيت الفئران جرعات عالية من مركب يثير مستقبلات الأدينوسين، كنوع من محاكاة ما يحدث خلال عملية الحرمان من النوم. بعد 12 ساعة تحسنت حالة الفئران، وذلك بقياس المدة الزمنية التي استغرقتها في محاولة الهرب عندما أُجبرت على السباحة أو عند تعليقها من ذيلها.
نعلم أيضاً أن الحرمان من النوم يقوم بعمل أمور أخرى للدماغ المكتئب، حيث يقوم بتعزيز التغييرات في توازن الناقلات العصبية في مناطق تساعد في ضبط المزاج، ويستعيد النشاط الطبيعي في مناطق معالجة المشاعر في الدماغ ويقوي الروابط بينها.
وقد اكتشف بنديتي وفريقه أنه إذا كان علاج اليقظة يُحفز نُظم الساعة البيولوجية البطيئة، فإن الليثيوم والضوء يساعدان على تخفيض ذلك. استُخدم الليثيوم باعتباره ضابطاً للمزاج لسنوات، ولم تُفهم كيفية عمله، ولكننا نعلم أنه يحفز إفراز بروتين Per 2، والذي يُحفِّز الساعة الجزيئية في الخلايا.
وفي الوقت نفسه فإن الضوء الساطع يُعرف بتأثيره في تعديل أنظمة النواة فوق الحركية، بالإضافة إلى تحفيز نشاط مناطق معالجة المشاعر في الدماغ بطريقةٍ مباشرة. في الواقع اعترفت جمعية الطب النفسي الأمريكية بأن العلاج بالضوء له نفس تأثير معظم مضادات الاكتئاب في معالجة الاكتئاب غير الموسمي.
على الرغم من النتائج المبشّرة للعلاج باليقظة ضد متلازمة ثنائي القطب، إلا أنه انتشر بشكل بطيء في الدول الأخرى. يقول ديفيد فيل – مستشار الطب النفسي في المؤسسة المتحدة للخدمات الصحية الوطنية في جنوب لندن ومودسلي – : “يمكنك أن تكون ساخراً وتقول إنك لا تستطيع تسجيله كبراءة اختراع”.
لم يحصل بينيديتي إطلاقاً على الدعم الدوائي ليُكمل تجاربه في العلاج الزمني، وبدلاً من ذلك كان وما زال يعتمد على الدعم الحكومي، والذي يكون عادةً دعماً بسيطاً، ويتم تمويل أبحاثه من قِبل الاتحاد الأوروبي. لو أنه اتبع الطريقة التقليدية في قبول مال بطريقة تجارية ليُجري تجارب الأدوية مع مرضاه ويضيف مازحاً: أنه على الأرجح لم يكن ليسكن في شقة بغرفتي نوم ويقود سيارة هوندا سيفيك 1998.
إن التحيز تجاه الحلول الدوائية أبقى العلاج الزمني بعيداً عن اهتمام العديد من الأطباء النفسيين، ومتأسفاً يقول فيل: “الكثير من الأشخاص لا يعلمون عنه”.
كما أنه من الصعب الحصول على العلاج الوهمي (placebo) المناسب للحرمان من النوم أو التعرض للضوء الساطع، مما يعني أن تلك التجارب العشوائية المضبوطة باستخدام العلاج الوهمي للعلاج الزمني لم تُنفَّذ، وبسبب ذلك فقد نتجت بعض الشكوك في مدى فعاليتها. يقول جون جيدز – بروفيسور في الطب النفسي الوبائي بجامعة أوكسفورد – “بالرغم من ارتفاع نسبة الفائدة لا أعتقد أن العديد من العلاجات القائمة على هذه الطريقة قد تُستخدم بطريقة روتينية. يجب أن يكون الدليل أفضل وهناك العديد من المعوقات العملية في تطبيق بعض الأمور كالحرمان من النوم”.
ومع ذلك فإن الاهتمام بالعمليات التي تدعم العلاج الزمني قد بدأ بالانتشار. ويُضيف: “تزود بعض الأفكار الحالية في بيولوجيا النوم وأنظمة الساعة البيولوجية أهدافاً واعدة لتطور العلاج. إن الأمر يتجاوز الأدوية، إن استهداف النوم بالعلاج النفسي قد يعالج أو يمنع الاضطرابات العقلية”.
يُجري الأطباء النفسيون في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية والدنمارك والسويد تجربة العلاج الزمني كعلاج للاكتئاب العام، وصرَّح فيل: “إن العديد من الدراسات التي أجريت على المدى القريب ما زالت في نطاق ضيق”. يخطط فيل حالياً لدراسة جدوى في مستشفى مودسلي في لندن، ويعلِّق قائلاً: “يجب أن نثبت أن هذه الطريقة مجدية ويمكن اتباعها”.
أما كلاوس مارتيني، والذي يبحث في الوسائل غير الدوائية لعلاج الاكتئاب بجامعة كوبنهاغن بالدنمارك، فيرى أن “الدراسات التي أُجريت حتى الآن خرجت بنتائج مختلطة”، وقد نشر تجربتين لملاحظة تأثير الحرمان من النوم بالإضافة إلى ضوء الصباح الساطع اليومي وأوقات النوم الاعتيادية على حالات الاكتئاب العام. في الدراسة الأولى، تناول 75 مريضاً دواء الدولوكستين المضاد للاكتئاب، إضافةً إلى العلاج الزمني أو التمارين اليومية. بعد الأسبوع الأول، 41% من المجموعة التي خضعت للعلاج الزمني لم يعانوا سوى من نصف الأعراض، مقارنةً بنسبة 13% من المجموعة التي عولجت بالتمارين اليومية. وخلال 29 أسبوعاً، تخلص 62% من جميع الأعراض عبر علاج اليقظة، مقارنةً بـ 38% من المرضى في مجموعة التمارين.
في الدراسة الثانية التي أجراها مارتيني، قُدِّمت نفس حزمة العلاج الزمني بالإضافة إلى الأدوية والعلاج النفسي لمرضى الاكتئاب الحاد الذين ناموا في المستشفى. وبعد أسبوع واحد تحسنت المجموعة التي تلقت العلاج الزمني بشكل أفضل من المجموعة التي تتلقى العلاج الأساسي، وبالرغم من ذلك فإن المجموعة الضابطة أدركت العلاج في الأسابيع اللاحقة.
وحتى اللحظة لم يقم أحدٌ بمقارنة العلاج باليقظة مع العلاج بالأدوية وجهاً لوجه، كذلك لم يُجرَّب ضد العلاج بالضوء الساطع والليثيوم كلٌ على حدة. وعلى الرغم من فعاليته لدى بعض الأشخاص، إلا أن فكرة العلاج من دون أدوية تبدو مغرية للعديد من مرضى الاكتئاب بالإضافة للأطباء النفسيين.
يقول الدكتور جوناثن ستيوارت – بروفيسور في الطب النفسي السريري في جامعة كولومبيا بنيويورك والذي يجري حالياً تجربة العلاج باليقظة في معهد ولاية نيويورك للطب النفسي – “أنا من الأطباء الذين يشجعون على تناول الأدوية لكسب لقمة العيش، ولكن دائماً يثير اهتمامي القيام بأمورٍ لا تتطلب اللجوء إليها”.
على عكس بنديتي، يحرص ستيوارت على إبقاء المرضى مستيقظين لليلةٍ واحدة، ويشرح فكرته بقوله: “لم أتمكن من لقاء العديد من الناس الذين يوافقون على البقاء في المستشفى لمدة ثلاث ليالٍ، ويتطلب ذلك الكثير من الرعاية الصحية والموارد”، عوضاً عن ذلك أستخدم ما يُسمى بطور النوم المتقدم، وهو يتضمن الأيام التي تلي ليلة الحرمان من النوم، فيزيد الوقت نوم المرضى استيقاظهم بطريقة منهجية. عالج ستيوارت حوالي 20 مريضاً متبعاً هذا البروتوكول حتى الآن، وقد أظهر 12 مريضاً منهم تحسناً ملحوظاً خلال الأسبوع الأول.
قد تنفع هذه الطريقة كإجراء وقائي، وتوضّح الدراسات الحديثة أن المراهقين الذين يهتم آباؤهم بتطبيق وفرض وقت مبكر للنوم، أقل عرضةً للاكتئاب والتفكير الانتحاري. ومثل العلاج بالضوء والحرمان من النوم، فإن الآلية الدقيقة غير واضحة، ويعتقد بعض الباحثين أن المقاربة بين وقت النوم ودورة الضوء والعتمة الطبيعية مهمة جداً.
لقد فشل تقديم مرحلة النوم في التوافق مع الاتجاه السائد، وأقر ستيورات بأن هذه الطريقة لا تنفع للجميع، وعن ذلك يقول :”إنها معجزة شفائية لأولئك الذين استفادوا منها، وهي كالبروزاك لا يستفيد منه جميع مستخدميه” وأضاف: “مشكلتي الوحيدة أنني لا توجد لدي أدنى فكرة مقدماً عمن سيستفيد منها”.
إن أيّ شخص معرض للإصابة بالاكتئاب، ولكن هنالك أدلة قوية على أن التغيرات الجينية قد تعطّل الساعة البيولوجية لدى بعض الأشخاص مما يزيد من فرصة إصابتهم به، وهناك ربط للعديد من التغيرات الجينية للساعة البيولوجية مع الارتفاع الحاد في تطور الاضطرابات المزاجية.
وقد تتضاعف المشكلة بسبب الضغط، ويقوم هرمون الكورتيزول بتنظيم ردود أفعالنا بشكل كبير، والتحكم به يجري عن طريق الساعة البيولوجية. يؤثر الكورتيزول كذلك مباشرةً على توقيت ساعاتنا البيولوجية، ولذلك إذا كانت ساعتك البيولوجية ضعيفة، فإن الضغط الزائد قد يكون كافياً لدفع نظامك لحافة الهاوية.
بكل تأكيد يمكنك إثارة أعراض الاكتئاب لدى الفئران عن طريق تعريضها لمؤثر مؤذٍ بشكل متكرر – كالصعقة الكهربائية التي لا تستطيع الهرب منها – وتُدعى هذه الظاهرة بالعجز المكتسب. في نهاية المطاف تستسلم الحيوانات لمواجهة هذا الضغط المتكرر، وتُظهر سلوكيات شبيهة بالاكتئاب. عندما حلل ديفيد ويلش – طبيب نفسي في جامعة كاليفورنيا، سان دييجو – أدمغة الفئران التي لديها أعراض الاكتئاب، اكتشف وجود اضطرابات في نظم الساعة البيولوجية في منطقتين حرجتين في دائرة الكفاءة بالدماغ، وهو النظام المتورط بشكل كبير في الاكتئاب.
وقد أظهر ويلش أن نظام الساعة البيولوجية المضطرب قد يسبب أعراضاً شبيهة بالاكتئاب، وعندما أخذ بعض الفئران الصحيحة وأزال الجين الرئيسي في ساعة الدماغ البيولوجية الأساسية، بدت تماماً كالفئران المكتئبة التي درسها سابقاً، ويقول ويلش: “لم تكن بحاجةٍ لتتعلم كيف تكون عاجزة، لقد كانت عاجزة من قبل”.
إذا كانت اضطرابات نظم الساعة البيولوجية إحدى مسببات الاكتئاب، فما الذي يمكن عمله لمنعها عوضاَ عن علاجها؟! هل من الممكن تقوية ساعتك البيولوجية لزيادة المرونة النفسية، عوضاً عن علاج أعراض الاكتئاب بواسطة الامتناع عن النوم؟
يتفق مارتيني مع ما سبق ويجري حالياً تجربة حول ما إذا كان الاستمرار بالجدول اليومي العادي سيمنع مرضى الاكتئاب المنوّمين من الانتكاسة بعد التعافي وخروجهم من جناح الطب النفسي. علّق مارتيني: “تبدأ المشكلة عادةً في تلك اللحظة عندما يخرجون، يصبح اكتئابهم أسوأ مجدداً”.
بيتر البالغ من العمر 45 عاماً، مساعد رعاية من كوبنهاغن، حارب الاكتئاب منذ سنوات مراهقته المبكرة. حاله كحال أنجلينا مع الاكتئاب وغيرها الكثير، نوبته الأولى تلتها مرحلة من الإجهاد الشديد والهيجان. أخته التي أوصلته إلى حدٍّ ما، غادرت المنزل عندما كان في الثالثة عشرة من عمره، وتركته مع والدته ووالده اللامباليين واللذَين يعانيان أيضاً من الاكتئاب الشديد. بعد ذلك توفي والده إثر إصابته بمرض السرطان – صدمةٌ أخرى – وذلك بعد أن أخفى تشخيص حالته إلى الأسبوع الذي سبق وفاته.
أصبح بيتر نزيلاً بالمستشفى بسبب الاكتئاب لست مرات، إضافة إلى شهر أبريل الماضي، وصرّح قائلاً: “إن البقاء في المستشفى يعد راحةً في بعض الأحيان”، لكنه يشعر بالذنب حيال تأثُر أبنائه البالغين من العمر 7 و9 سنوات بهذا الأمر. يعلق قائلاً: “أخبرني ابني الصغير أنه يبكي كل ليلةٍ أقضيها في المستشفى لأنني لستُ بجانبه لأحتضنه”.
لذلك عندما أخبر مارتيني بيتر عن الدراسة التي يجريها حالياً ويضمّ متطوعين إليها – وقد أطلق عليها “علاج تعزيز الساعة البيولوجية”- وافق بيتر مباشرةً على المشاركة. تدور الفكرة حول تقوية نظُم الساعة البيولوجية للأشخاص، عن طريق تشجيع الانتظام في أوقات نومهم واستيقاظهم ووجباتِهم وتمارينهم، بالإضافة إلى دفعهم لقضاءِ وقتٍ أطول في الخارج وتعريضِهم لضوء النهار.
بعد مغادرة بيتر لجناح الطب النفسي ولمدة 4 أسابيع في شهر مايو، ارتدى جهازاً يراقب نشاطه ونومه، ويسجل كذلك استبيانات حول المزاج الطبيعي، وإذا حدث أي تغيير في الروتين، فإنه قد يتلقى مكالمة هاتفية لمعرفة ما الذي يحدث.
عندما ألتقيت ببيتر، فإننا نمزح بشأن خطوط السمرة حول عينيه، حيث يتبين بأنه يأخذ النصائح على محمل الجد، فيقول ضاحكاً: “نعم! أنا أخرج إلى الحديقة، وإذا كان الجو رائعاً فإنني أصطحب الأطفال إلى الشاطئ للتنزه أو لساحة اللعب، لأنني حينها سأحصل على بعض الضوء مما يحسن من مزاجي”.
هذه ليست كل التغييرات، فهو الآن يستيقظ في الساعة السادسة كل صباح لمساعدة زوجته في رعاية الأولاد ويتناول إفطاره حتى وإن لم يكن جائعاً، والذي عادةً ما يكون زبادي مع حبوب الفطور. لا يأخذ أي قيلولة ويحاول بأن يذهب إلى النوم في حدود الساعة العاشرة مساءً، وإذا استيقظ خلال الليل، فإنه يقوم بالتدرب على التركيز الكامل للذهن (وهي إحدى التقنيات التي تعلمها في المستشفى).
جمع مارتيني بيانات بيتر في حاسوبه والتي أكدت التغييرات في الأوقات المبكرة للنوم والاستيقاظ، ووضحت تطوراً في طبيعة نومه، الذي انعكس على نتائج مزاجه. بعد خروجه مباشرةً من المستشفى أصبح متوسط هذه النتائج حوالي 6 من 10، وبعد أسبوعين زادت هذه النتائج لتثبت على 8 و9، وفي إحدى الأيام استطاع الوصول إلى 10 وفي بداية شهر يونيو عاد إلى وظيفته في بيت الرعاية، فكان يعمل لمدة 35 ساعة في الأسبوع، واعترف بقوله: “لقد ساعدني وجود الروتين في حياتي كثيراً”.
حتى هذه اللحظة ضمَّ مارتيني 20 مريضاً إلى برنامجه التجريبي، بينما كان يهدف إلى ضم 120 مريضاً، ولذلك فإن الوقت ما زال مبكراً لمعرفة عدد الأشخاص الذين سيستجيبون للعلاج مثل بيتر، أو بالتأكيد ما إذا كانت صحته النفسية ستبقى مستقرة. ومع ذلك فهناك أدلة قوية على أن روتين النوم الجيد يحسِّن من صحتنا العقلية، فوفقاً لدراسة نُشرت في المجلة الطبية Lancet Psychiatry في أيلول 2017 – أكبر تجربة عشوائية لتدخّل الطب النفسي حتى الآن – أظهر المرضى المصابون بالأرق الذين خضعوا لدورة علاج إدراكي سلوكي لمدة عشرة أسابيع لعلاج مشاكل النوم لديهم انخفاضاً ثابتاً في تجارب الهذيان والهلوسة، كذلك أظهروا تحسناً وانخفاضاً في أعراض الاكتئاب والقلق، كوابيس أقل، وصحة نفسية وأداء يومي أفضل، وكانوا أقل عرضةً لنوبات الاكتئاب واضطرابات القلق خلال برنامج هذه التجربة.
النوم والروتين وضوء النهار، هي معادلة بسيطة ومن السهل الوثوق بها. ولكن تخيل لو كانت تقلل فعلاً من احتمالية الإصابة بالاكتئاب وتساعد الناس على التعافي منه بطريقة أسرع، فإنها لن تحسّن فقط من طبيعة حياة عدد غير محدود من الناس، ولكنها ستحافظ كذلك على أموال أنظمة الصحة.
في حالة العلاج باليقظة، فإن بينيديتي يحذّر الأشخاص من تطبيقه بأنفسهم في بيوتهم. خصوصاً للأشخاص الذين يُعانون من اضطراب ثنائي القطب، لأن هنالك خطورة في أن يتسبب ذلك في إثارة الجنون على الرغم من أن الخطورة تبدو أقل من تلك التي تظهر عند أخذ مضادات الاكتئاب. كذلك فإنه من الصعب إبقاء نفسك مستيقظاً طوال الليل، حيث تتراجع حالة بعض المرضى للاكتئاب وتشوش الحالة المزاجية، وهو أمر خطير. يقول بنديتي: “أود أن أكون حاضراً لأحدِّثهم عنها عندما تحدث لهم، فعادةً ما تسبق محاولات الانتحار حالات التشويش”.
بعد أسبوع من قضاء الليل مستيقظةً مع أنجلينا، اتصلتُ ببينيديتي لمتابعة تطور حالتها، وأخبرني أنه بعد تعرضها للحرمان من النوم للمرة الثالثة، أحسّت بخمود تام للأعراض وعادت إلى صقلية مع زوجها. في ذلك الأسبوع كانا يخططان للاحتفال بذكرى زواجهما الخمسين، وعندما سألتها إن كانت تظن بأن زوجها سيلاحظ أي تغيير في حالتها النفسية، قالت إنها ترجو أن يلاحظ التغيير في مظهرها الخارجي.
بعض الأمل، بعد أن قضت أكثر من نصف عمرها من دونه، أجزم بأن عودته إليها هو أثمن هدية ذهبية لذكرى زواجها على الإطلاق.