إسلاميات… وقفات مع الإصدارات البحثية حول الحركات الإسلامية
منتصر حمادة
تروم هذه المقالة تسليط الضوء على ملاحظة تميز الأعمال البحثية التي تشتغل على موضوع الحركات الإسلامية بشكل عام، مع التركيز هنا على الإصدارات الخاصة بالساحة الفرنسية بحكم كثرتها، كماً ونوعاً، مقارنة مع السائد هنا في المغرب، وحتى في المغرب العربي.
وبحكم إن الأمر يتعلق بعدة أنماط من الإسلاموية، من قبيل “الدعوة والتبليغ”، “السلفية الوهابية”، “الإخوان المسلمون”، “الحالة الجهادية”..إلخ، ارتأينا التوقف عند الأعمال التي تطرقت للظاهرة الإخوانية والحالة الجهادية.
تفيد هذه الملاحظة، الأقرب إلى فرضية، وتحتاج إذاً إلى تأكيد وتدقيق، أنه سواء تعلق الأمر بقراءة الظاهرة الإخوانية، أو الحالة الجهادية، هناك تميز واضح للأقلام البحثية التي تعود أصولها إلى الثقافة العربية والإسلامية، وبيان ذلك كالتالي:
أ ــ في الاشتغال على الظاهرة الإخوانية، هناك بداية خصاص كبير، أو ندرة في الإصدارات، كماً ونوعاً بخلاف الأمر مع الاشتغال على الظاهرة الجهادية، بل إن عدد الكتب التي كانت مضامينها مخصصة كاملة للإخوان المسلمين، تعد على رؤوس الأصابع.
صحيح أننا نقرأ أبحاث ودراسات حول إخوان فرنسا في العديد من الكتب، ولكن تأتي في الغالب ضمن عمل جماعي يتطرق لواقع الإسلام والإسلام السياسي، والمشهد الإسلامي بشكل عام هناك، ولا نعاينها في كتب مخصصة حصراً للتوقف عند الإخوان المسلمين.
ومن نتائج هذا المعطى، أن دخول باحثين فرنسيين، من أصل عربي، وفي الغالب من أصل مغاربي [المغرب والجزائر وتونس]، إلى ساحة التأليف، تجعلهم يرسخون أقدامهم في هذا المضمار، رغم التباين في طبيعة المقاربة ومضامين الخلاصات، ولكن أصلهم الثقافي، العربي الإسلامي، يجعلهم متمكنين من عُدة نظرية أو مفاهيمية نادرة لدى الباحثين الفرنسيين، بما في ذلك الباحثين الذين رسخوا أقدامهم من عقود في الاشتغال على الظاهرة، من قبيل الثلاثي أوليفيه روا وجيل كيبل وفرانسوا بورغا، بصرف النظر أيضاً هنا عن التباين في طبيعة هذا الثلاثي وغيره، ومضامين أعماله.
بل هناك ميزة أخرى لدى الأقلام الفرنسية من أصل مغاربي، لا نجدها عند الأقلام البحثية الفرنسية، وهي أن بعض هؤلاء، سبق له المرور من تجربة إسلامية حركية، من قبيل التجربة الإخوانية في نموذجنا هنا، كما هو الحال مع الثنائي محمد لويزي وفريد عبد الكريم، وبالتالي، لديهم مفاتيح نظرية من جهة، وتنظيمية من جهة أخرى، تجعل مضامين أعمالهم، تتضمن قراءات مغايرة نسبياً أو كلياً مع أغلب القراءات الصادرة عن أقلام بحثية تتعامل مع الظاهرة من الخارج.
على سبيل المثال لا الحصر، تتضمن أعمال هذا الثنائي، وقفات مع بعض الوقائع والأحداث المرتبطة بأداء التنظيم، ولكن من منظور نقدي، والتي ما كانوا يتطرقون إليها من قبل من المنظور ذاته، في مرحلة الانتماء بسبب ضيق الأفق النقدي ضيق أفق حرية التعبير داخل المشروع، مع فارق أن الخوض النقدي فيها، لا نجده عند الأقلام التي تشتغل على الظاهرة من الخارج، لأنها لا تملك أدنى تجربة تنظيمية من الداخل، وليس صدفة أن القراءات البحثية وحتى أعمال السير الذاتية، التي حرّرها أعضاء سابقون في أي مشروع إسلامي حركي، من قبيل المشروع الإخواني، غالباً ما تتضمن مفاتيح نظرية غائبة كلياً أو نسبياً في أغلب ما يصدر عن الباحثين في الساحة، وليس صدفة أيضاً أن أعمال النقد الذاتي من الداخل، الصادرة عن أعضاء سابقين، تحظى بتكتم شديد من أعضاء التنظيم المعني، لعدة اعتبارات، منها أنها تسلط الضوء على أعطاب المشروع؛ تساهم في الكشف عن حقيقة ومآل المشروع؛ وتنخرط من يحث تدري أو لا تدري في توعية الأعضاء والأتباع، وأغلبهم من أصحاب النوايا الساذجة، بطبيعة المشروع، ضمن اعتبارات أخرى.
ب ــ في الاشتغال على الظاهرة الجهادية، نعاين بداية فورة في الإصدارات، سواء كانت رسمية، خاصة مع التقارير الصادرة عن مؤسسات الدولة، من قبيل مجلس المستشارين، أو الإصدارات التي حررتها مجموعة من الأقلام البحثية في الساحة، مع فارق أن السنوات الأخيرة ستتميز بارتفاع وتيرة التأليف حول الظاهرة الجهادية، مقارنة مع المرحلة الزمنية السابقة، وكانت أحداث الساحة هناك، من قبيل اعتداءات شارلي إيبدو في 7 يناير 2015، منعطفاً مفصلياً يقف وراء ارتفاع وتيرة الاشتغال البحثي.
من مميزات هذا الاشتغال أيضاً، أننا نجد أعمالاً فردية، كما نجد أعمالاً جماعية، بحكم تعقيدات الظاهرة، هذا دون الحديث عن أعمال فردية، ولكنها نتيجة عمل جماعي في الكواليس، ولكن لا يُعلن عن ذلك، كما هو الحال مع بعض الأساتذة الجامعيين في الساحة، أو بعض الأسماء البارزة التي تشتغل في إطار مؤسساتي، والتي رسخت إسمها، ولكن أغلب ما يصدر عنها، لا يُحرر بشكل فردي، وإنما بناءً على أداء عمل فريق بحثي.
ويتضح تميز الأقلام البحثية الفرنسية ذات الثقافة العربية والإسلامية، في طبيعة المقاربة التي تنهل منها، مقارنة مع أغلب المقاربات السائدة في الساحة الفرنسية، سواء كانت تشتغل في حقل العلوم السياسية أو العلوم الاجتماعية أو الفلسفة، وحقول علمية أخرى، وقد يكون الثنائي فتحي بنسلامة وفرحاد خسروفاخر، في مقدمة الأسماء المتميزة في هذا المضمار، ليس لأن فرحاد خسروفاخر مثلاً اشتهر بالاشتغال على الظاهرة الجهادية منذ عقود، فالأمر نفسه مع بعض أعمال أوليفيه روا وأسماء أخرى، ولكن لأنهما انخرطا في الدفاع عن نموذج تفسيري مركب في سياق قراءة الظاهرة الجهادية، ويُقصد به نموذج تفسيري يأخذ مسافة من القراءات الأحادية والاختزالية في معرض تفكيك وقراءة الظاهرة، وكان عملهما المرجعي حول الجهادية الفرنسية في نسختها النسائية [2017، وصدرت ترجمته إلى العربية في سنة 2019]، من أهم الأعمال التي ترجمت طبيعة مقاربتهما المركبة والتفاعلية، والتي لا تتعامل مع “الجهاد من حيث هو تعبير عن الإسلام، أو من حيث إنه إحالة على عالم ثالث يائس، لأن الأهمية لا تكمن في هذه الثنائيات بمقدار ما تقع في التمفصل ما بين القطبين”، خاصة أن “المقاربة ثنائية الاتجاه [تلك التي يتبناها أوليفيه روا وجيل كيبل وأغلب الباحثين هناك]، تُظهر جيداً أن الواقعي لا يناسبه تأويل أحادي لابعد، وأنه متعدد ولا يُستنفد في معاينة بسيطة، وأن تعقيداته تستحق منا بحثاً استقصائياً” (ص 141).
إذا تركنا جانباً الاشتغال البحثي للأقلام الفرنسية على الظاهرة الإسلامية الحركية، أياً كانت طبيعة مقاربتها، وطبيعة مرجعيتها، العلمية والإيديولوجية، يمكن إضافة الاشتغال البحثي على الظاهرة نفسها، والمحرر من قبل أقلام عربية، تقيم هنا في المغرب والمنطقة العربية، لولا أن ميزة هذا الاشتغال، كونه نادر أيضاً، حيث غالباً ما يتعلق الأمر بدراسات وأبحاث بالدرجة الأولى، وهناك معطى آخر، يُميز هذا النوع من الاشتغال البحثي، كونه يُحرر باللغة العربية، بالتالي يكون موجهاً إلى القارئ العربي، أو القارئ الفرنسي والغربي المتمكن من اللغة العربية، من قبيل فئة معينة من الباحثين، والمؤسسات الإعلامية في السفارات الأوربية والغربية، وسوف كون وجيهاً التفكير في ترجمة بعض الأعمال الصادرة هنا في المنطقة، إلى اللغة الفرنسية أو اللغة الإنجليزية، في معرض تعريف القارئ الأوربي إجمالاً بمضامينها، ما دامت تشتغل على واقع يهم أكبر جالية مسلمة في أوربا.