سلسلة “بصمات فضالية”: الحلقة الرابعة مع الدكتور عبد القادر بوكوس
الدار/ إعداد: بوشعيب حمراوي
لكل مدينة وقرية رائدات ورواد، بصموا بمعادن نفيسة في سجلات تاريخها الحضاري. ساهم كل من زاويته وتخصصه في نهضتها وتطورها في كل المجالات.. مدينة الفضاليين.. ومشتل قبائل المجدبة وزناتة والشاوية… واحدة من تلك المدن التي تحتفظ بأرشيف ثقيل ووازن يستحق الذكر والتذكير والإشادة.. مدينة حظيت باسم ملكي (المحمدية)، نسبة إلى الملك الراحل محمد الخامس.. واستحقت في فترات من صيرورتها أن تلقب بمدينة الزهور والرياضات الأنيقة. بفضل نساءها ورجالها المبدعين، المكافحين.
نسعى من وراء سلسلة (بصمات فضالية)، أن نسلط الضوء على هؤلاء وأولئك الذين واظبوا على إشعاع نور الأمل والتحدي والمثابرة بالمدينة. شخصيات محلية تألقت في مجالات متعددة محليا ووطنيا ودوليا.
نجوم فضالية برزت في كل مناحي الحياة.. كانت القدوة والقائد و النموذج التنموي المفروض أن يحتذي به الأطفال والشباب… وسيكون لمآثر ومعالم ورموز المحمدية نصيب من هذه السلسلة.. حيث الحديث عن قصص مثابرة وتحدي وكفاح ونجاح وتميز وصمود … تشهد بها المدينة وسكانها وكل الوطن..
الحلقة الرابعة : الدكتور عبد القادر بوكوس.. أكثر من مجرد طبيب
لو كان الفضاليون يدركون حقيقة وتفاصيل ما يشغل بال وقلب الدكتور عبد القادر بوكوس، من هوس وإدمان على فعل الخير.. وما يقوم به منذ 15 سنة، طواعية وفرحا في عزلة النهار وظلمة الليل، من خدمات صحية واجتماعية وإنسانية. لأجمعوا على أنه عملة نادرة لا يمكن أن تؤثث عوالمهم المادية، حيث الكل منغمس في ملذاته وشؤونه الخاصة. وأنه ربما ملاك في صورة بشر، ساقه القدر لنجدة واحتضان الفقراء والمعوزين بزناتة والمجدبة والشاوية.. لو بحثوا عن مسار هذا الرجل الطيب والخلوق، الذي وجد أن غذاءه في احتضان ذوي الحاجة، من المشردين والأطفال المتخلى عنهم، والمرضى الذين لا يجدون من يتكفل بعلاجهم. لعلموا أنه ليس (طفل جميل)، كما يعبر عن ذلك لقبه (بوكوس beau gausse)، بل إنه الجمال والكمال البشري بكل تفاصيله.
أكثر من مجرد طبيب..
كان بوكوس… الذي لم يكتف بالوفاء والعهد لقسم أبقراط.. ولم يكتف بخدمة الإنسان رغبة في رضا الخالق.. بل إنه نزل في فترات من عمله كطبيب، إلى مستوى الإدلال بنفسه خدمة للمريض.. ويكفي ما قام به من تضحيات جسام عندما كان طبيبا بمركز صحي غير مجهز بمنطقة تافروات. ففي غياب امكانيات إجراء التحاليل الطبية العادية وانعدام أطباء التخصص. كان بوكوس يلجأ إلى اجتهادات خاصة، بما لديه من وسائل. بل إنه كان يتذوق (بول المرضى)، لقياس مستوى السكري. عندما يحال عليه مريض بداء السكري في حالة غيبوبة. من أجل معرفة وضع السكري لدى المريض مرتفع أو منخفض.
أول مندوب للصحة بالمحمدية
إنه أول مندوب للصحة عين بتراب عمالة المحمدية مباشرة بعد أن أصبحت عمالة، علق بهذه المدينة ورفض الانتقال منها، رغم العروض التي قدمت له من طرف الوزارة الوصية حينها. فضل الابتعاد عن المسؤولية والأضواء. واكتفى بالمكوث إلى جانب المواطن. وتقديم خدماته الطبية في سرية وصمت. يشكل الدكتور عبد القادر بوكوس إلى جانب الأخصائية الاجتماعية عائشة عزيزي، ما بات يعرف بتراب عمالة المحمدية، بثنائي الرحمة، الذي ترك هموم ومشاغل الأسرة، وملاذ الحياة بكل تجلياتها، واختار تقديم العمل التطوعي المجاني، وتقديم خدمات طبية واجتماعية وإنسانية للأشخاص في وضعيات صعبة والاحتياجات الخاصة، بكل فئاتهم العمرية، ذكورا وإناثا.
الولادة وبداية المسار
ولد عبد القادر بوكوس بمدينة الصويرة سنة 1946، من أب مستخدم في فندق، وأم ربة بيت. وهي المدينة التي درس بها التعليمين الابتدائي والإعدادي. قبل أن ينتقل إلى مدينة الدار البيضاء، هي تابع دراسته بالثانوي التأهيلي بثانوية مولاي عبد الله. ليعرج بمعدل جد مرتفع إلى كلية الطب. حيث تخرج منها سنة 1975. وكان عليه العمل كطبيب متدرب لمدة سنتين، بمدينة آكادير. حيث بدأت مكانته الطبية، ورغبته في العمل الجاد والإنساني. تتجلى لدى مسؤولين. فكان لا يمانع في سد الخصاص بعدة مدن بعيدة عن مدينة أكادير بعشرات الكيلومترات. منها (تيزنيت، سيدي إيفني..). قبل أن يتم تعيينه كطبيب رسمي بمدينة تافروات سنة 1977. بعدها انتقل للعمل كطبيب عمومي بمدينة تيزنيت. قبل أن يعين كرئيس مستشفى بمدينة آزرو لمدة أربع سنوات، ليرقى بعدها إلى منصب مندوب للصحة بعمالة المحمدية سنة 1981. حيث اشتغل إلى حدود سنة 1988. بعدها رفض اقتراح نقله كمندوب خارج تراب المحمدية، ليكتفي بالعمل كطبيب بمستشفى مولاي عبد الله لمدة سنتين، ثم مشرفا على بناء وتجهيز والإشراف على أول بنك للدم تم إحداثه بالمدينة حتى حدود سنة 2005، ليحال على التقاعد. وينتقل من عمله الرسمي، إلى عمله التطوعي كمسؤول إقليمي للهلال الأحمر المغربي وعضو باللجنة المركزية للهلال. وفاعل جمعوي اجتماعي إنساني خيري.
بصمة واضحة في العمل الاجتماعي
بصم الدكتور بوكوس في سجل العمل الخيري والاجتماعي بمداد من ذهب. وخصوصا بعد إحالته على التقاعد. يحكي بوكوس أنه امتص رحيق عمل الخير والتطوع المجاني من والديه. وأنه يسعد بسعادة من حوله ويتعس بتعاستهم. ولا يمكن أن يقف وقفة المتفرج عندما يتعلق الأمر بالإسعاف وتقديم الخدمات لذوي الاحتياجات الخاصة والأشخاص في وضعيات صعبة.
فهول لا يكتفي بتقديم خدمات الهلال الأحمر المغربي الذي انخرط فيه منذ سنة 1975، بل إنه اقتحم كل الميادين الاجتماعية والصحية والإنسانية. ويزيد اهتمامه بخصوص المشردين وأطفال الشوارع. حيث وضع بوكوس بشراكة مع الشبكة الإقليمية للتضامن الاجتماعي، وجمعية القصبة المتخصصة في احتضان أطفال الشوارع، برنامجا سنويا لضمان خلاء أزقة وشوارع المحمدية من الأطفال والمشردين بمختلف فئاتهم.
و من يزور المدينة حديثا، يرى كيف أنه لا وجود لأطفال الشوارع الذين كانوا يملئون المدينة، وخصوصا ليلا. إذ تم احتضانهم من طرف جمعية القصبة. ويهتم شخصيا بمتابعتهم طبيا ونفسيا وحتى اجتماعيا ورياضيا. كما أنه وضع لائحة لكل المشردين بالمدينة. منهم من تم تدبير ملجأ لهم. ومنهم من رفضوا الابتعاد عن الشارع. لكنه يداوم الاهتمام بهم صحيا واجتماعيا. وتلقيحهم ضد الأمراض والأوبئة. علما أنه يجد صعوبة في تدبير ملجأ أو مستقر للمشردين المرضى نفسانيا.
الهلال الأحمر المغربي بسواعد شبابية متطوعة
تمكن الدكتور عبد القادر بوكوس من استقطاب مجموعة كبيرة من شباب وشابات المدينة والإقليم، ليعملوا بتطوع دائم. سواعد شابة استفادت من تداريب مكثفة طبية ورياضية واجتماعية. وأصبحت تشكل ترسانة قوية وجد مؤثرة. حضور وازن للمسعفين في معظم الأنشطة الخيرية والصحية والاجتماعية بتراب عمالة المحمدية. بل إن هؤلاء الشباب لا يكتفون بتنفيذ برامج الهلال الأحمر المغربي، بل أصبحوا يقترحون ويبدعون يعملون بنكران للذات… وقد قدموا مساعدات جسيمة عندما نظمت مجموعة من الأنشطة .. نذكر منها استفادة من عملية توزيع كراسي عادية والكترونية على المعنيين، وكذا عمليات ختان عصرية لمئات أطفال المعوزين.. وهي أنشطة مولت من طرف اللجنة الإقليمية للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية.
وراء إحداث مجموعة من المرافق الصحية بالمحمدية
يرجع الفضل للدكتور بوكوس في إحداث المركز الصحي بجوطية عالية المحمدية، وكذا مركز تحاقن الدم الذي تحول الآن إلى مركز تشخيص الأمراض المتواجد بشارع الحسن الثاني. كما أسس جمعية للتخطيط العائلي لتساعده على تقديم خدمات للأسر المعوزة. وسبق أن حصل على مجموعة جوائز وطنية، وكان بنك الدم الفضالي الأول بالمغرب في مجال التبرع بالدم، الذي أحدث سنة 2002.
كما أحدث مركزا للفحص والتحسيس بمرض السيدا، وجند مجموعة من المسعفين لخدمة المركز. كما قام بعمليات فحص تخص الرياضيين بالمدينة، وضمنهم لاعبو شباب المحمدية. مع العلم أن كل من ثبتت إصابته بالمرض يتم التكفل به من طرف الجمعية الوطنية لمحاربة داء السيدا بالبيضاء.
قبل عن مضض منصب مندوب الصحة
يحكي بوكوس أنه كان ولازال يفضل العمل في صمت وراء الستار، وأنه لم يكن يبحث عن المسؤولية والتموقع. لكن في سنة 1981، السنة التي عرف احتجاجات كبيرة بالمغرب، أو ما عرف ب(ثورة الكوميرا). قررت الدولة تقسيم تراب الدار البيضاء الكبرى إلى عمالات ومقاطعات. وكان لابد أن يصاحب هذه العملية، عمليات تأسيس باقي المصالح الخارجية. فتم اقتراحه كمندوب للصحة. رفض في البداية، إلا أنه وافق عن مضض، وبعد أن اختار عمالة المحمدية. وأوضح أنه وجد صعوبة في البداية من أجل توفير الموارد البشرية، وتأثيث تراب العمالة بما يلزم صحيا. وأنه تمكن من إحداث مركز صحي بعالية المحمدية. ومركز صحي بمنطقة عين حرودة. حيث اختار له مساحة شاسعة أملا في أن يتحول المركز الصحي مستقبلا إلى مستشفى يكفي للعلاج ويوازي التزايد السكاني بالمنطقة. كما يعود له الفضل في جلب الأطباء الصينيين، المتخصصة بالتداوي بالإبر.
طبيب مجاني لشباب المحمدية
عمل الدكتور بوكوس بالمجان، طبيبا لنادي شباب المحمدية، وفريقه الأول منذ سنة 1983. ضل يتنقل معهم حيث ما حلوا ارتحلوا، من ماله الخاص. إلا أنه قبل حوالي خمس سنوات، انتفضت فعاليات رياضية ضد وضع الطبيب داخل النادي. وطالبت بتعويضه. فرفض الطبيب وأصر المكتب المسير على مده بتعويض رمزي. وكوس هو طبيب رهن إشارة نادي اتحادي المحمدية، كما كان ولازال رهن إشارة عدة جمعيات رياضية وأندية لرياضات فردية وجماعية.
ما يزيد بوكوس وزنا وقيمة
طبيب بالمدرجات: من طرائف ما عاشه بوكوس حينما بدأ عمله كطبيب لنادي شباب المحمدية، أنه لم يكن حينها مسموحا لأطباء الفرق بالجلوس إلى جانب الأطقم التقنية واللاعبين. وأنه كان يجلس بالمدرجات مع الجمهور وكل ما أصيب لاعب ما . فإنه يسارع من المدرجات للالتحاق باللاعب وإسعافه.
تذوق بول مريض: عند تعيينه بمركز صحي بمدينة تافروات. لم يجد تجهيزات مختبرية. فكان يلجأ إلى تذوق بول المرضى لقياس مستوى السكري لديهم. وخصوصا عندما يأتيه مريض بداء السكري في وضعيات جد خطيرة وحالات غيبوبة. ولم سبق له أن توفي له مريضا داخل المركز . علما أنه كان يمارس كل الاختصاصات.
ينقل الحوامل على متن سيارته: لمسافة 200 كيلومتر ، كان الطبيب بوكوس، ينقل الحامل التي تعذرت ولادتها العادية، على متن سيارته نوع جيب، ويذهب بها إلى مدينة أكادير حيث اقرب مستشفى لإجراء عمليات قيصرية. وكان في عدة حالات يعود ادراجه بعد أن تضع الحامل مولودها بسيارته. بسبب البنية الطرقية، ولم يسبق أن توفت له امرأة حامل..
لا يقرب السكر: منذ أزيد من ربع قرن، لم يذق بوكوس السكر الاصطناعي، الطبيب ليس مريضا بأي داء، ولكنه اختار الجانب الوقائي لمدى معرفته بأضرار السكر . شعاره حذاري من كل ما هو دقيق أبيض.. ويعني.. الملح والسكر والفرينة.
النوم والاستيقاظ باكرا: ينام بوكوس في حدود الثامنة ليلا، وينهض باكرا في حدود الثالثة فجرا.. وغالبا ما يترك المنزل فجرا لتفقد المشردين بالمحمدية.
شارك في المسيرة الخضراء: كان بوكوس عضوا بارزا ضمن الطاقم الطبي الذي اشرف على صحة وتغذية المشاركين في المسيرة الخضراء.
كما شارك في إعمار الحسيمة: مكث الدكتور بوكوس لمدة سنة ونصف بمدينة الحسيمة، مباشرة بعد الزلزال الأخير الذي دمر كل معمارها. وكان يلعب أدوار مختلفة تنوعت بين المشرف والطبيب والإداري.