الأحزاب السياسية.. بين داء فُقدان الثقة المُكتسبة وأفـق انقراض التعددية
بقلم: يونس التايب
نظمت فعاليات مدنية تهتم بالشأن الحزبي و بالمشاركة السياسية في المغرب، نـدوة فكـرية، الأسبوع الماضي بمدينة الدار البيضاء، في موضوع تمت صياغته على شكـل سـؤال بالدارجة المغـربية: "واش ممكـن نمـارسـو السياسـة بلا أحـزاب؟"، أي بمعنـى "هـل بإمكاننـا أن نمـارس السيـاسة بـدون أحـزاب ؟".
سؤال واضح، و راهني بامتياز، و استفزازي بالمعنى الإيجابي للكلمة، يستلزم الجواب عنه، استعراض و تقييم أسباب نشأة الأشكال المُستجدة في الفعل السياسي ببلادنا، وأساسا ظاهرة الحركات الاجتجاجية التي عبرت، أخيرا، عن مطالبها بحقوق اجتماعية و اقتصادية وثقافية، وأطرتها "تنسيقيات" اشتغلت بالاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي، و تنظمت بشكل مستقل، رسميا و تنظيميا، عن الأحزاب الوطنية. كما يستلزم تنـاول أدوار الأحزاب و حصيلة أداءها، ومسؤولياتها في تدبير الشأن العام الوطني، سواء من موقع الأغلبية أو موقع المعارضة، و استقراء الإمكانيات العملية و الواقعية لتجـاوز النموذج الكلاسيكي للممارسة السياسية التي تمـر عبر قناة الأحزاب، خصوصا في مسألة التمثيلية الانتخابية.
الجميل في سؤال الندوة أنه تقـاطع مع أسئلة عـريضة يطرحها المواطنون، والشباب على وجه الخصوص، بشأن المؤسسات الحزبية في بلادنا: ماهيتها؟ وأدوارها ؟ وتجليات وجودها؟ ومنجزاتها ؟ وحكامة تدبيرها ؟ ومساهماتها الفعلية في تحسين واقع الناس ؟ و الأهم من ذلك، مدى وجود "قيمة مضافة" فعلية للهيئات السياسية تُعزز بها شرعيتها، وتُساعد على إبطال سؤال الجدوى من وجود الأحزاب إذا كانت لا تؤدي أدوارها؟
و هنا لا بد أن نُقـر بالحالة المُجتمعية الضاغطة من عدم الرضا عن الفعل السياسي، و عن الأحزاب وممثليها ومنتخبيها، حتى أن الأمر يصل لدى البعض إلى سُخط واستهجان مُستمر، و تشكيك مُمنهـج، وتسفيه أوتوماتيكي لعمل كل الهيئات السياسية، وإطلاق اتهامات قبيحة في حق السياسيين والمنتخبين، من ضعف الكفاءة، و فساد الذمة، واستغلال النفوذ، وتضييع المال العام، و تغييب صوت الشعب و تسفيه مطالبه، و إقصاء مُمنهج للنخبة المثقفة في صفوف الأحزاب، وتضييق يمنع ولوج الشباب إلى الساحة السياسية و الحزبية… إلخ.
ولشيوع هذه الحالة بين الناس، أصبح السياسيون مضطرين للاعتراف بأن رصيد الثقة في الأحزاب اقترب من النفاذ، و أن "داء فقدان الثقة المُكتسبة" سيقضي لا محالة على ما تبقى من مناعة في الجسم الحزبي. و قد يؤدي ذلك إلى إزالة الشرعية عن أشكال الممارسة السياسية بأدواتها التقليدية، ما دامت لم تعُد تستجيب لانتظارات المواطنين، و لا هي تخلقُ التحفيز المطلوب لتتجدد الساحة السياسية و يرتفع مستوى الأداء التدبيري للشأن العام، و تظهر نُخب بكفاءات عالية، و برامج و تصورات جديدة وناجعة.
و علينا أن نعـذُر من ينتقـدون أداء الأحـزاب السياسية، و نتفهم امتعاضهم مما يلحظونه من غياب أغلب تلك الهيئات عن الواقع اليومي، وغياب التواصل أو الإنصات الصادق لمشاكل الناس، واكتفاء عدد كبير من ممثلي الأحزاب بالظهور أيام الانتخابات، من خلال دكاكين ومقرات موسمية تُفتح هنا وهناك، بدون تأطير سياسي ميداني بين المحطة الانتخابية و التي تليها. كما علينا أن نأخذ في الاعتبار أن الصورة العامة التي تشكلت في أذهان الناس، أمام استفحال أزمة البطالة وتوسع الفوارق الاجتماعية و تدني الخدمات الأساسية من تعليم و صحة، هي أن الأحزاب عجزت عن تحقيق التطلعات و الوعود التي أطلقتها، و انشغل "زعماؤها" و "مناضلوها" بمشاكل تنظيمية وحروب مواقع، و أوقفت جُل الأحزاب ماكينة "إنتاج السياسة و بلورة البدائل و تأطير الشباب وتكوين الأجيال الصاعدة على مبادئ الديمقراطية و المواطنة و خدمة الوطن". فيما قامت الأحزاب المُسيرة للحكومة بترسيم سياسات عمومية لا تُحقق الأمال المنشودة في التنمية والعدالة و المساواة والتشغيل و محاربة التهميش الاجتماعي و تطوير منظومة التربية والتكوين وخدمات الصحة العمومية.
ورغم ذلك، مع تسليمنا بأن جزء كبيرا مما ينتقدُه الساخطون على الحياة الحزبية، صحيح و واقعي ويحتاج إلى معالجة، إلا أنني أعتقد أن إصدار حُكم قيمة على كل الأحزاب وإدانتها جملة و تفصيلا، سيظل غير موضوعي إذا لم يأخذ في الاعتبار، رواسب السيـرورة التاريخية الوطنية، و ما عرفته من انعطـافـات حـادة أدت، في فتـرات معينـة، أدت إلى خلخـلة منظـومة القيـم المُتحكمـة فـي "النضال السياسي"، و غيـرت "قـواعـد اللعـبـة" غير ما مرة، وجعـلت حكـامة النسـق السياسي العام تقبـل بما لم يكـن أبـدا ممكنـا القبـول به في الممارسة السياسية في أزمنة سابقـة. وبالتالي، إن تسفيـه الأداء الحزبي، وتعميم التهـم على جميـع مكـونات المشهد، فيه ظلـم كبير للفاعلين الجادين، و هم موجودون في كل التيارات، كما أن المفسدين موجودون أيضا في كل التيارات.
إضافة إلى ذلك، يظل حصر خلل الممارسة السياسية في فاعل واحد هو الأحزاب السياسية، بدون استحضار تفاعل وديناميكية تدافع باقي الفاعليـن المؤثـريـن، أمـرا غيـر دقيـق. ويقيني أن أول الفاعلين الذين يجوز في حقهم كثير من العتاب و المؤاخذة، هم المواطنون أنفسهم، خصوصا منا أولائك الذين اختاروا الانزواء عن الدينامية الحزبية، والعزوف عن المشاركة السياسية، و الغياب يوم اختيار المنتخبين بالجماعات والمجالس النيابية، وعدم إغناء النقاش العمومي بأفكارهم و كفاءاتهم ومساهماتهم، وعدم السعي لممارسة الحقوق التي يكفلها الدستور للمواطنين في مراقبة الفاعل العمومي و تتبع السياسات و انتقادها، وعدم الاستفادة من آليات الديمقراطية التشاركية محليا و جهويا، وعدم اللجوء إلى أجهزة الحكامة المختلفة وإلى وسائل الإعلام من أجل فضح الممارسات الفاسدة، و الصبر على التعب الذي تُسببه طريق السياسة و المُواطنة المسؤولة.
وإذا كان صحيحا أن نسبية الممارسات الديمقـراطيـة داخـل التنظيمات الحزبيـة لا تُشجـع على الانخراط الفاعل للمواطنين، و خاصة الشباب، إلا من كان له منهم طول نفس، وروح نضالية عالية، و ذكاء اجتماعي كبيـر، يبقى أن لا شيء يُجيز الغياب لأن "سياسة الكرسي الفارغ" كانت وستظل عاجزة عن تحقيق أية إضافة إيجابية، أو تغيير الواقع الحزبي و السياسي و المؤسساتي نحو الأفضل. بل على العكس، سيبقى لعدم المشاركة ورفض الانخراط في الحياة الحزبية أثـر واحد هو تـركُ الساحة الحزبية رهينة "قفـوزية" المُتاجـريـن بالسياسة وبالقنـاعـات وبالمـواقـف وبمصائر الناس.
كما أن العزوف السياسي يجعل الحياة الحزبية عقيمة ومُعقدة، حيثُ أن النخبة الرشيدة والصادقة، الموجودة في الأحزاب الجادة، تجد نفسها بلا سند وبلا دعم من "الصالحين والنزهاء" الذين آثروا الابتعاد و عدم المشاركة. مما يُجبرُ تلك النخب على التعايش مع واقع بئيس يضيق فيه هامش الحركة والفعل السليم، أمام إمكانيات و شعبوية بعض النماذج "الخارقة" التي حلت بالذات الحزبية، عبر مراحل، إما لتحتمي بمظلة الأحزاب خوفا من أن تصلها الأيدي المُتعقبة للفساد، أو لأنها لا تستطع تحقيق نجاح يُذكر خارج السياسة. ولأنها قررت أن تستثمر "مهاراتها الخطابية" الجوفاء، و "كفاءاتها" في علم "من أين تُأكل الكتـف"، وقدراتها على "تنشيط" الاجتماعات، الخاصة و العامة، وتدبير "الكولسة و إنتاج "القوالب"، لم يعد لديها شك في استحقاقها مقـام "الـزعـامـة"، بفضل البُعد الكمي البليد الذي يتيح الغلبة، ديمقراطيا، "للأرقام والأعداد" و ليس للقيم والأفكار الجيدة.
لذلك أظن أن من يروجون لعدم المشاركة، و يتجنبون مشاكل التدافع السياسي المؤسساتي المُنظم، ويكتفون بسياسة "الصبع من تحت الجلابة"، والانتقاد على منصات التواصل الاجتماعي، يستحقون أن نقول لهم بأدب : رجاء لا تستنكروا و لا تلوموا حال أحزابنا ونُخبنا، و لا تشتكوا من تردي القدرة على إنتاج البدائل و بلورة المقترحات السياسة، لأنكم بغيابكم، تعيدون إنتاج شروط المُعضلة و تكرسونها من حيث لا تشعرون.
ويبقى الأهم، إذن، هو أن تنهض الأحزاب للدفاع عن رصيد الثقة المُتبقي فيها، من خلال اعتماد مقاربة تتجـاوز المنطـق التبريري لداء "فُـقـدان الثقـة المُكتسبة"، و التحلي بشجاعـة الاعتراف بالتقصيـر الذي حصل، والخروج بالاستنتاجات اللازمة، واتخاذ القرارات التي تترتب على ذلك و منها حتمية التداول وترك المكان لكفاءات و طاقات أخـرى، وابتكار أنماط تنظيميـة جديـدة، واعتماد منظومة حكامة صارمة تُلـزم القيادات الحزبية بأن تكون أنقى و يكون أداؤها التدبيري أنجعُ وأرقى من الصورة البئيسة التي علقت بها في الأذهان.
لم يعُد يخفى أن الوضع غير صحي تماما في بُعده الإستراتيجي، لأن العملية الديمقراطية تفقد أي معنى في غياب حضـور حـزبي قوي و متوازن، و ذي مصداقية لدى الناس. ويظل الخطر قائما في أن تميل الأمور إلى شكل من أشكال "انقراض التعددية" و "احتكار المشهد و المؤسسات" من طرف أي تيار أو فاعل حزبي، يكون أكثر تنظيما وأكثر ضبطا لمناصريه، و يستطيع الخروج بأقل الأضرار من رُكام التسفيه وتشويه الحياة الحزبية، و يتمكن من تحقيق الغلبـة على باقي الفاعلين ب"أغلبية نسبية" تُعززها المشاركة الانتخابية الضعيفة. فهل من الأحزاب أو من المواطنين من يريد أن تموت تعدديتنا السياسية ؟ لا أظن ذلك، ولكن الكثيرين غافلين أننا سائرون إلى ذلك الأفق من غير وعي.
ويبقى الأمل الوحيد هو أن واجب الدفاع عن المصالح العليا للدولة الوطنية، الذي هو أقدس وأهم من أية عملية ديمقراطية عليلة و مُخلخلة بسبب عزوف مستمر وأحزاب لا تؤدي كامل وظائفها، سيجعل من غير الممكن أن يُسمح بالانتظار إلى ما لا نهاية، أن تستيقظ بعض مؤسسات الوساطة السياسية من سُباتها، و أن تتصالح مع المواطنين. كما أن استمرار التدبير السليم للنسق المؤسساتي، و احترام الثوابت الوطنية و الدفاع عن خيار الديمقراطية والتعددية و التداول السلمي على السلطة عبر آلية الانتخابات الديمقراطية الشفافة، سيمنع قبول مزيد من هـدر الزمن السياسي و الصبر على تهافت حزبي لا ينتهي.
حذاري إذن، أن نُهون من أثـر واقع الخلل الكبير الذي تشهده الساحة السياسية، و الذي تزيد من خطورته السياسات النيوليبرالية المجحفة للأغلبية الحكومية، و ما تُسببُه من احتقان صامت و غليان بُركاني في الأعماق. و حذاري، بدرجة أكبر وأعمق، أن نُعول على "الطبيعة التي تكره الفراغ و تسعى لملئه بما تيسر لها"، لأن "ما قد يتيسر لها" قد لا يُعجب غالبية الناس، و قـد لا يُحقـق مبتغـاهم في التقـدم و التنمية والحرية و العدالة الاجتماعية والاقتصادية و المساواة والانفتاح على تحديات العصر، و بناء دولة المؤسسات، و سمو القانون في إطار دولة وطنية تحمي الهوية المغربية الأصيلة.
أما إذا استمر هذا العبث القائم، فعـلـى الجميع أن يقبـلوا أفقا دراماتيكيا يتعايش فيه احتمالان اثنين:
أولهما، "تصويت ديمقراطي"، بتوابل العزوف و ضُعف المشاريع السياسية، تنقرض به التعددية السياسية بعد تحقـق فوز و غلبة غيـر مسبوقـة لفاعـل واحـد، ليس لأن قوته "خارقة"، أو لأن له حلولا سحرية للمشاكل، أو لأنه أبان عن كفاءة قل نظيرها، ولكن فقط لأنه يجتهـد و يعمل في الميدان مع مناصريه، فيما منافسوه غارقون في بحر من التخبط الفكري، وصراع المواقع و الذوات المُتضخمة، والاستسلام لمنطق المصالح و المكتسبات الآنية بكل السبل، متناسين الوطن وأفضاله عليهم.
ثانيهما، هـو أن نـرى المجتمع و قد أصبح أرخبيلا من "التصورات و المشاريع و الرؤى السياسية"، كل قوم بما لديهم فرحون، يتحركون ويرسمون طريقهم، و يمارسون السياسة، في شبكات التواصل الاجتماعي أو في زوايا الشوارع و الساحات العمومية، بمعزل عن أي تأطير مؤسساتي حزبي، وأي أفق استراتيجي وطني جامع.
حينها ستزول الحاجة إلى مجموعة من الهيئات السياسية تلقائيـا، بعد أن يكون قد تأكد أنه من غير المُمكن أن يُعـول عليها لرفع منسوب التنافسية السياسية و الـرُقـي بوضع تدبيـر الشـأن العام الوطني. وحينها، لن يُقبـل من أحـد أي حديث عن تعـرض العملية الديمقراطية "للقرصنة"، ولن يستجيب أحد لصرخات "أغيثونا… إن التعددية في خطر"، لأن القضية ستكون قد حُسمت و قُضي الأمر الذي فيه ستستـفـتـون.
فهل سننتظر أن يحُل هذا الأفـق؟ أم ما يزال بيننا شيء من العقـل و الحكمة و الغيرة الوطنية؟