المواطن

أحمد الشرعي: الأحزاب السياسية لا تقدم للشباب إلا حلولا قليلة بل وتتخلى يوما بعد يوم عن دورها في الوساطة

*"الخيار الجديد قد يجعل من المغرب مختبرا للمنطقة ككل"

أثار العالم العربي على امتداد عقدين من الزمن اهتمام كل المراقبين الدوليين، فقد أخذت المجتمعات في أهم المناطق الجيو-استراتيجية في الغليان من الداخل، مع بنيات سياسية غالبا ما تكون بعيدة عن الديمقراطية. ولقد شكل ما أطُلق عليه الربيع العربي لحظة فوران، بل لحظة قطيعة. الآن وبإلقاء نظرة إلى الخلف، بالإمكان إيجاد تفسير موضوعي ومنطقي للظاهرة.
ويختلف الهرم السكاني في المجتمعات العربية عن الهرم السكاني في أوربا. إذ يمثل الشباب في الدول المغاربية أزيد من نصف الساكنة. ففي الجزائر على سبيل المثال، يشكل الأشخاص أقل من 30 سنة 60 في المئة من مجموع السكان. وبالرغم من ارتفاع سن الزواج، بفضل تعليم الفتيات وبسبب عوامل أخرى، ما زالت نسبة الخصوبة أعلى من 2، أي أن التجديد مسألة بسيطة. الانتقال الديموغرافي لم يبدأ بعد.
وينمي هؤلاء الشبان طموحين متكاملين اثنين. الأول طموح اقتصادي واجتماعي، والثاني طموح سياسي تحرري ليبرالي. هذا ما قيل في بداية الربيع العربي قبل أن يستحوذ الإسلاميون، "لأنهم كان أكثر تنظيما"، على حركة الاحتجاج، وما أتبع ذلك من تبعات نعلمها اليوم جميع. هناك بلدان اثنان أفلتا من هذا المسار لكون منظومتيهما السياسيتين أظهرتا نوعا من المرونة والخفة: الأردن والمغرب. فملكا كلا البلدين استجابا بصورة سريعة وأبديا ردا فيه لمسة من الانفتاح ساعدت على احتواء التحدي الجديد.
وعلى نفس المنوال، في المغرب، ساهم خطاب التاسع من مارس 2011 وإعلانه عن دستور جديد للمملكة في كبح حركة 20 فبراير، دون تسجيل مواجهات أو قمع. غير أن هذا الانفتاح السياسي لا يكفي إن عازته القدرة على الاستجابة لتطلعات الشباب فيما يخص طموحاتهم الاقتصادية. وتعترف المندوبية السامية للتخطيط، وهي مؤسسة إحصائية رسمية مستقلة عن الحكومة، أن معدل البطالة ما زال يتراوح بين 9.2 و9.8 في المئة في السنوات العشر الأخيرة، بعدما تقلص مع بداية القرن. هذا هو المشكل الذي يواجه كل بلدان المنطقة، بما فيها الجزائر بالرغم من ثرواتها الطاقية. ولا يسمح متوسط معدل نمو يتراوح بين 3 و4 في المئة، وهو معدل الدول المغاربية، في تخفيض نسبة عطالة الشباب بصورة كبيرة. ببساطة لا يمكن استيعاب كل الملتحقين الجدد بسوق الشغل بمعطيات كهذه. 
وفي ظل هذه الظروف، من الطبيعي أن تنشب خصومات وصراعات، إذ تحولت الشبكات الاجتماعية إلى أوعية لصب حالة الامتعاض فيها، لأن الأحزاب السياسية لا تقدم للشباب إلا حلولا قليلة بل وتتخلى يوما بعد يوم عن دورها في الوساطة. باختصار، لم تعد الأحزاب السياسية تمثل المغاربة (إنها الرسالة التي تتكرر على الشبكات الاجتماعية). ويصل الأمر بالمنتقدين إلى أن يكون انتقادهم عنيفا أحيانا وأحايين أخرى يشككون في رموز الدولة ككل. وهناك ظاهرة مقلقة أخرى تعكس هذه الطموحات وهي ظاهرة الهجرة. بداية، بصورة سرية نحو إسبانيا، والمشكل آخذ في التنامي على نحو سريع بعد مرحلة من الهدوء دامت عدة سنوات، وهي تجر معها كل مرة أعداد كبيرة من المآسي الإنسانية، على غرار مقتل طفلة في تبادل لإطلاق النار بين البحرية المغربية ومافيا التهريب، وأيضا موت مآت الأفارقة ممن يحاولون العبور إلى أوربا.
وبناء عليه، هناك من المستعجل إدخال إصلاحات من الأعلى إلى الأسفل على الاقتصاد المغربي لكي يصير أكثر إدماجا. والملك ملزم بهذا الأمر بحكم مقتضيات دستور 2011 الجديد، ولا يمكنه أن يعوض الحكومة أو الإدارة. إن دوره يتمثل في ضمان استقرار البلد ووضع الخطوط العريضة التي على الحكومة والمؤسسات المنتخبة تبنيها. ولقد قام بذلك في سلسلة من خطاباته، كان آخرها، في البرلمان، يوم الجمعة 12 أكتوبر، حيث اقترح تغيير الوجهة باعتماد نموذج تنموي جديد يقوّي التماسك الاجتماعي والعدالة الجهوية، ويحسّن فرص الشغل في مجال الفلاحة وفي العالم القروي، ويقضي على الهشاشة المهنية عن طريق اعتماد التكوين المهني.
هذا مشروع كبير، فالنموذج الحالي ركّز كل طاقته على قطاعات صناعية استطاعت تحقيق نتائج حقيقية، سيما في مجال صناعة السيارات. غير أنه لا يحل مشكلة البطالة، ولا مشكلة التفاوتات المجالية، ولا حتى قصور الخدمات العمومية. إن هذا الخيار الجديد قد يجعل من المغرب مختبرا للمنطقة ككل. ومن الأجدر التركيز بصورة مختلفة على المشاكل وتشجيع تفاعل مختلف القطاعات الاجتماعية. وسيمكن مجرد الاشتغال على هذه المقاربة الجديدة وتقييم النتائج المحصلة دون أي تنازلات لا محالة من الحصول على نظرة عامة في المدى المتوسط تظهر إن كانت هذه المقاربة ستنفع حقا في حل هذه المشاكل.
لكن يجب أن تساعد هذه المقاربة الجديدة على تفعيلها القارة الأوروبية المشغولة بظاهرتي الهجرة والإرهاب. إن هذه المنطقة تمثل كذلك سوقا اقتصادية مهمة لأوروبا التي تجد نفسها اليوم مقيدة بفعل الهيمنة الصينية على إفريقيا. وحتى مستقبل المغرب مرتبط بها أيما ارتباط. وعلى أوربا عموما وإسبانيا بوجه خاص أن تعي ذلك تمام الوعي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

19 + 17 =

زر الذهاب إلى الأعلى