الرأي

السينما.. البوابة الكبرى للسياحة

د. مراد الريفي العلمي

شكلت الدورة الثامنة للمهرجان المغاربي للفيلم، التي عرفتها مدينة وجدة الأسبوع الفارط، مناسبة ثقافية استثنائية، أولا وقبل كل شيء، لتباري كوكبة من الأفلام القصيرة والطويلة من أجل الظفر بإحدى الجوائز في وقت أضحت فيه المهرجانات محجا لا بديل عنه للإنتاج السينمائي بدول العالم الثالث، التي تعرف استمرار نزيف إغلاق القاعات السينمائية.

وقد مكنني حضوري مختلف أطوار هذا المهرجان، بدعوة كريمة من مديره الفاعل المدني النشيط خالد سلي، فضلا عن مشاهدة الأفلام المتبارية، من التفاعل مع أبرز محطاته خصوصا منها تلك التي ناقشت أدوار السينما كصناعة ثقافية إبداعية، سواء لحظة الماستر كلاس الذي نشطه المخرج العالمي رشيد بوشارب وعرف مشاركة المنتج الناقد المرجعي الجزائري أحمد بجاوي، أو الندوة حول دور السينما في تعزيز السياحة الثقافية. ونظرا لأهمية هذا الحدث الثقافي واستمراره بخطى حثيثة في ترسيخ حضور السينما كمكون ثقافي في المنظومة التنموية للجهة الشرقية، أردت تقاسم خلاصة آرائي وملاحظاتي بشأنه، مع قراء ومتتبعي جريدة الدار.

مبدئيا، بعيدا عن الشعارات الرنانة التي تسعى إلى جعل حوار الثقافات برنامجا منمطا جاهزا لا أثر له في الحياة الثقافية، شكل الحدث على غرار المهرجانات السينمائية الأخرى التي بلغت ببلادنا زهاء ستين مهرجانا، فرصة حقيقية لخلق أجواء حوار ثقافي رفيع بين نجوم ومشاركين من مشارب وتخصصات ومهن سينمائية أو ذات صلة بالمجال، من مصر وموريتانيا والجزائر وتونس والمغرب وفرنسا وبلجيكا. حوار تراوح بين لحظات فكرية تحليلية وتقييمية، وأخرى حميمية تلقائية، توارت فيها التكلسات السياسية والوطنية التي تصيب الجسم الثقافي والتي لا مكان لها في لغة السينما والسينمائيين. أما من حيث المضمون، فقد بدا جليا مدى ارتباط الأفلام المتبارية بواقع المجتمعات المغاربية وبما يعتمل فيها من تحولات جوهرية تطال بنية العلاقات الإنسانية بين الفرد ومحيطه. كما طرح الفيلم الفائز "فتوى" وسلسلة الأفلام الأخرى، القصيرة والطويلة، سؤال المعنى الذي بدأت تتبدد مقوماته في مفاصل الحياة الرتيبة تارة والمتدافعة تارة أخرى، وما يتمخض عن غياب بوصلة المعنى من قلق وهلع وتوتر. والملاحظ تقلص مساحة الفرح والاحتفال في كل الأفلام، أمام مساحة القلق والتوتر والاحتقان، فقد بسطت الأفلام مقادير هذا القلق من تشدد وتطرف وتكفير واغتصاب وعنف مجتمعي وتعنيف للمرأة وتكريس لدونيتها واستبداد سلطوي وعنصرية ضد الإعاقة وخيانة زوجية، ونقشت في ذاكرة المتفرجين لقطة همجية سمع على إثرها صياح صدمة بعض مرهفي الإحساس، عندما هم متطرف عند نهاية فيلم "فتوى" الفائز، بذبح زوج بطلة الحكاية، المغادر من مطار تونس الخضراء من الوريد إلى الوريد. وقد طرح هذا الارتباط بواقع المجتمعات، سؤال السينما والهوية والتي أثير حوله نقاش غني، امتد من ضرورة الرقابة على تسلل المضامين المخلة بثقافات وقيم المجتمعات من إباحية وضرب للقيم والثوابت، إلى اعتبار السينما مساحة للحرية والجمال لا حكم فيها إلا للجمهور يقبلها أو يرفضها. كما شدد المخرج بوشارب على أن رهان السينما هو صناعة صورة تمرر المواقف الإنسانية التي تخلق من الحدث الموغل في المحلية موقفا عالميا يؤثر في التايلاندي والأفغاني والمصري والسويدي وكل من ينتمي لقبيلة الإنسان، وأن ما دون ذلك لا يهم.

وأما من حيث صناعة الصورة، فقد اتضح أن براعة المخرجين لا تكفي دونما إنتاج يسند القدرات والمهارات الإبداعية. وبالفعل، فقد فتح الإنتاج البلجيكي أمام مخرج فيلم "فتنة"، التونسي محمود بن محمود، إمكانيات تحويل أفكاره الدقيقة إلى لقطات محكمة. بيد أن ظلال شح الإمكانيات غطت على باقي الإنتاجات المغاربية، إذ مكن غوص المخرج رشيد بوشارب والمنتج الناقد أحمد بجاوي في دروب وأخاديد الصناعة السينمائية بمناسبة الماستر كلاس، من توضيح شبكة الحلقات المتشابكة والمعقدة للصناعة السينمائية والتي تتطلب مهنية عالية وقدرة استثنائية على التنسيق بين مختلف هذه الحلقات، دون إغفال كون العامل الحاسم هو نسيج القطاع الخاص المؤمن بالاستثمار في السينما والقادر على تثبيت عائداتها كصناعة ثقافية مربحة. بيد أن الرأي  الذي بدا غالبا، هو استمرار غياب السينما كصناعة ثقافية مربحة اقتصاديا، ضمن أولويات رؤية الفاعل السياسي المأزومة والتي مازالت لم تنتبه إلى المحاضن الحقيقية القمينة بتحريك وتنشيط عجلة النمو المتذبذبة.

وتبقى أهم محطة استأثرت باهتمامي، في نسق اهتمامي بالموارد الاقتصادية للصناعات الثقافية، هي الندوة التي خصصت لموضوع أثر الإنتاج السينمائي في الحركية السياحية. فقد بدا جليا مدى ارتباط النشاط السياحي بما تنقله السينما من مضامين عن الحياة الاجتماعية والثقافية، والصور من مشاهد عمرانية ومعمارية ومنظرية. إذ انبرى الفنان يونس لهري في معرض تعقيبه، للدفاع عن فكرة أولوية أولويات السينما المغربية، وهي نقل صورة إيجابية عن المجتمع والتاريخ والحضارة المغربية، وأن المكامن القاتمة يجب أن تدرج بحساب وميزان لئلا تتحول السينما إلى مرآة تعكس جمال وتاريخ وهوية المغرب في صورة مشوهة.

ويمكن عموما إجمال الأفكار المتفرقة في هذا الباب إلى المستويات المترابطة التالية. فأما على الصعيد الماكرو، فالفيلم الناجح يثير انتباه المشاهد بأرجاء المعمور إلى مكان ما بالعالم، ويغرس بذرة الفضول ويفتح دعوة زيارته والعيش للحظات في كنفه. فليس غريبا  عند احتراق كنيسة نوتردام بباريس أن تستعرض القنوات التلفزية العالمية مجموع الأفلام الخالدة التي صورت بهذه الكنيسة، في الوقت الذي صرح فيه الرئيس الأمريكي ترامب بأنه قبل زيارة هذه المعلمة، اكتشفها عبر الشاشة الكبرى.

كما أن فيلم كازابلانكا، على الرغم من عدم تصويره بمدينة الدار البيضاء، إلا أنه عرف العالم بأسره بمدينة مغربية في زمن لم يكن لها إشعاع اليوم. وعلى صعيد آخر، فقد أوضحت مداخلة جمال السويسي، رئيس لجنة الفيلم بجهة طنجة تطوان الحسيمة، أن الأفلام الكبرى تجلب لميادين التصوير حركية سياحية واقتصادية كبرى، وأنه في كثير من المناسبات تحول أحياء بكاملها بدول معينة إلى مدن بدول أخرى، وساق مثال فيلم "Black hawk down" الذي أشرف على إدارة إنتاجه، والذي حول حي سيدي موسى بمدينة سلا إلى مدينة مقديشيو الصومالية، وأوضح بتفصيل كيف تمت استفادة سكان الأحياء وسلسلة من الأنشطة ذات الصلة، من جزء من استثمار 30 مليون دولار التي كلفتها دورة إنتاج الفيلم.

أما على الصعيد الميكرو، فإن تصوير الفيلم يعني حركية بالفنادق وبالمنتجعات، حيث مجموع العاملين بالفيلم المتوسط قد يتراوح بين 60 إلى 400 دون احتساب العاملين غير المباشرين، ونقل وإطعام وتسوق …إلخ، النجوم والممثلين الرئيسيين والثانويين، وهو ما يخلق بؤرة حقيقية للسياحة والنشاط الاقتصادي، ما لمس بشكل جلي خلال الخمس أيام التي نظم بها المهرجان، حيث تحولت وجدة إلى قبلة حقيقية لوجوه شهيرة في مجال الفن السابع، أضفى حضورها حيوية سياحية خاصة، زاد من ألقها تزامنها مع زيارة وفد مهم من المستثمرين الفرنسيين لمدينة وجدة.

وقد خلصت الندوة إلى أن السينما بالدول المغاربية ما زالت مكبلة الإمكانيات، بالنظر إلى العديد من الاختلالات ذات الصلة بمختلف حلقات منظومة الإنتاج والترويج السينمائي، في ظرفية أصبحت فيه الدول تتنافس لاستقطاب الاستثمارات الموجهة للميدان، فدول المغرب العربي لن تصمد أمام تحفيزات دول منافسة كناميبيا ونيوزيلندا، علما أن استقطاب الحركية السينمائية الأجنبية يبدأ بخلق حركية سينمائية وطنية، وأن الاستديوهات المعدة كتلك التي تشتهر بها مدينة ورزازات يجب أن تحتضن أولا الإنتاج الوطني، باعتبار الإنتاج الأجنبي غير قار ومتحول. وقد جاءت مداخلتي لتلخيص أهم الإجراءات والتدابير التي تنتظر المجال السينمائي بدول المغرب العربي، والتي أوردها ملخصة كما يلي.

تهيئة تشريعية توفر المناخ التشريعي الملائم الذي يضمن سلاسة التحفيزات ويضبط تفاصيل الإنتاج السينمائي من خلال دفاتر تحملات دقيقة تراعي المنظومة في شموليتها. وقد ذكرت بمجهود المملكة المغربية في هذا الباب، إذ أشرفت وزارة الثقافة والاتصال (قطاع الاتصال) على وضع قانون جديد للمركز السينمائي المغربي أما البرلمان الذي يعرف قراءة ثانية، كما وضعت لدى الأمانة العامة للحكومة قانونا جديدا يتعلق بالصناعة السينمائية.  

تهيئة مؤسساتية، تتعلق بضبط منظومة الفاعلين في المجال السينمائي مع تبويء لجان الفيلم الجهوية مكانة معتبرة لتنسيق عمل لجنة جهوية مشتركة تسهل تنسيق الإنتاج السينمائي بمختلف حلقاته. وتفتح أمام ولاة ورؤساء الجهات صلاحيات واسعة في المجال.

تهيئة مجالية ترابية تدخل الصناعة السينمائية ضمن المخططات الجهوية للتنمية وتفتح أقطابا تنافسية بين الجهات، وتمكن من خلق محاضن متكاملة للتصوير والإنتاج السينمائي بحسب الموارد الطبيعية والمنظرية والسياحية ومؤهلات البنية الاستقبالية.

إعداد خطة وطنية للنهوض بالقطاع السينمائي على صعيد كل دولة مغاربية وعربية.

إنشاء صندوق للإنتاج السينمائي المغاربي المشترك، إذ عبر كبار المخرجين المغاربيين عن حلم الانتقال إلى أعمال سينمائية مشتركة تبين وحدة الرصيد الثقافي والمصير الحضاري.

الرفع من دعم الدولة لفتح القاعات والشاشات السينمائية، والمهرجانات السينمائية خصوصا منها الوازنة، فالمهرجان المغاربي للسينما باعتباره من أهم المهرجانات على الصعيد المغاربي مازال يحصل فقط على دعم 600000 درهم، علما أنه يكلف أزيد من مليون ونصف درهم.

تشجيع الدولة للمهرجانات التي تقدم المنتوج السينمائي الوطني خارج البلاد، فمهرجان نجمة الكريسطال المتخصص في عرض الفيلم المغربي بمدينة لييج البلجيكية مازال محروما من أي دعم علما أنه المهرجان الوحيد المتخصص في الفيلم المغربي بالعاصمة الأوروبية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثلاثة × 3 =

زر الذهاب إلى الأعلى