الرأي

“أبيض أسود”.. محمد بنيس يكتب لـ”الدار”: فارس بلا غمد…

محمد بنيس

عندما كنت داخل رحم الوجع.. كان الألم ينتزعني من العدم.. من وجدان مكسور.. من نفس مهشمة.. وكان الصدى لا يرجع إلا كطيف يسرق الضياء من العتمات.. كان الظلام يفور.. يسيطر بحلكته.. و أنزوي في غرف الزوايا القاتمة.. أصبح الألم عادة.. وتحولت أرى للقمر مخالب.. هل كنت أعشق قمرا متوحشا.. فقد أصبح الليل بلا لون.. بصمت القبور..

أزيح الألم وأتذكر..

بدايتي المهنية في جريدة "العلم".. أتذكر..

ذهبت أحمل وريقات قصة قصيرة علها تجد مكانا صغيرا بين عمالقة جيل السبعينيات.. كنت أبحث عن مدى.. كان في المدخل -شاوش- ببذلة عصرية يضع طربوشا.. وكان هذا الارتداء آنذاك بداية التحول من الجلابية إلى البذلة.. لكن الطربوش ظل علامة التشبث بالأصالة.. اسمه عبد النبي الكراري وله قصة سيتم تناولها في ما بعد.. قادني لمكتب رئيس التحرير عبد الجبار السحيمي.. وعندما ذكر اسمه قبل مواجهته كدت أتراجع وأعود أدراجي.. كنت أعتقد أنني سأقابل محررا ما.. فكيف أقف أمام هذا الأديب العملاق..

لم أجد مفرا.. زهدت في كل شيء.. لم يأت النجم بعد.. وتأكدت أن هذا ليس المأوى.. وجدته على مكتبه بلحيته المقصوصة الجميلة.. وبين يديه همَّ بإشعال غليونه..ولم أر مشهدا كهذا إلا في الأفلام الأجنبية.. واعتقدت أن من يدخن هذه -البيبا- ليسوا سوى العلماء والحكماء والمفكرون وكبار السن من الأثرياء..

كان يجلس على كرسي أمام مكتبه شاب وسيم حاد الملامح بلحية خفيفة.. وفي الزاوية الأخرى كان يجلس أمام مكتب آخر رجل بشوش عرفت أنه المحجوب الصفريوي..

سألني السحيمي عن معرفتي بالرياضة.. عن كرة القدم.. استغربت.. وضاع تركيزي.. حاورته.. ابتسم وطلب مني بعد أدبيات الاستئذان أن أكتب تقديما لجولة ما من بطولة القسم الوطني الثاني، وأشار للكراري أن يهيء لي دفتر النتائج والترتيب العام..

دخلت غرفة صغيرة جدا وأمدني بأوراق للكتابة.. بعد ساعة ونصف تقريبا عدت وسلمت ما كتبت للسحيمي.. وبعد أن قرأ بسرعة.. سألني.. هل تعرف هذا الذي يجلس أمامي.. حركت رأسي بالنفي.. قال.. إنه الشاعر محمد بنيس وتوجه له وهو يلمح لي اسمه محمد بنيس وسيختلط الأمر على القارئ.. محمد بنيس الشاعر يكتب في الرياضة.. وضحك الاثنان..

وفقدت تركيزي كله هذه المرة.. يا له من يوم غريب قاس.. أقابل فيه عملاقين دفعة واحدة.. كنت أمامهما صغيرا جدا.. كريشة طائر يقاتل ويختبئ ليغير جلده..

بعد التعرف والاستنتاج، توصلت إلى أنه ابن عم والدي.. سألني السحيمي عن اسم أبي فذكرته فقرر.. سيكون إمضاؤك: محمد بنسالم بنيس…

كنت هاربا وأنا أغادر هذا المكتب الملغوم.. رقصت كل دواخلي.. ربما طرد القدر تلك الدوائر التي تمنع الأصباح وتحول أنغام الفجر نشازا.. لقد تأكدت غير مصدق أن ما كتبته سينشر.. نسيت وريقات قصتي القصيرة العرجاء.. وحمدت الله أنني لم أقدمها على طاولة محكمة عليا.. لا ينفع معها استئنافا ولا نقضا..

في الغد نشر ما كتبت.. وعدت لجريدة "العلم".. وأصبح لي مكتب صغير في بيت مجاور لمكتب رئيس التحرير.. وبعد يومين، عُينت رئيسا للقسم الرياضي.. في غرفة كان بها الأستاذ محمد ضاكة.. ثم التحق بنا الأستاذان محمد الأشهب وعبد القادر شبيه.. ورفع الستار على بداية مسرحية مهنة استمرت وقاربت الخمسين سنة.. عملت خلالها مع حوالي 12 رئيسا للتحرير من المحليين والمشارقة، وشاركت في حوالي 14 مطبوعة..

أزيح الوجع وأتذكر..

أمس كان آخر استقبال.. كان في مكتب رئيس تحرير موقع "الدار" الأستاذ أحمد نشاطي.. ترحيب وتقدير وكلمات رائقة.. اعتقلت دموعي أمامه حتى لا أفضح فيض مشاعري..

سأتوقف.. كلماتي اغتالها الألم لزمن طويل.. وعودتي مثل عودة لاعب كان مصابا وبعد الاستشفاء يحتاج للعراكية.. ونفس التحمل.. أمامي قضايا وتناولات رياضية عديدة.. سأطرحها للنقاش معكم.. سأدعوكم بعد نيف من الترويض لنبش آخر.. في ذاكرة لم تعد تحسن ترتيب الأحداث…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

2 × 1 =

زر الذهاب إلى الأعلى