الدين والحياة

الثقافة الدينية لدى مسلمي أوروبا: مصادرها وقنواتها

 

مصطفى الشنضيض

إن التدين الإسلامي الشائع في الغرب المعاصر باختلاف تلاوينه وأشكاله وطبائعه، تشكَّل عبر عقود من الزمن وفق عوامل متعددة، داخلية وخارجية: عوامل داخلية ذاتية، تكمن في الجاهزية للمحافظة على الموروث، وداخلية ابستيمولوجيةتكمن في صعوبة اختيار مصادر المعرفة وأسسها ومجالاتها ومناهجها..، وعوامل خارجية سياسية تكمن في الأحداث العالمية والصراعات الإقليمية وصعود بعض التيارات اليمينية المناهضة للتعددية، وخارجية آيديولوجية متجسدة في كثرة معروضات التيارات الدينية، وانخراطاتها في مشاريعها داخل الفضاء الأوروبي. على ما سيأتي تفصيله.

وهذا كله من باب التمثيل السريع والتأشير الخفيف على بعض العوامل المهمة. وليس من باب الاشتمال والتطابق، أو الإحصاء والإحاطة، في موضوع متعدد الزوايا، وكثير الدوائر، مركب البناء، وإنما من باب التضمّن وشيء من اللزوم.

وهنا أحب أن أتوسط في عرض بعض مضامين ما سطرناه أعلاه من عوامل، ليتضح المعنى ويفهم المراد.

 

العامل العاطفي

أما العامل العاطفي والنفسي، فهو كامن في الجاهزية والميل الطبعي لدى الإنسان البسيط إلى المحافظة على الموروث الثقافي والديني، والخوف من الخروج عن المألوفات والمأنوسات، والخوف كذلك من مؤثرات المحيط الغيري المختلف في الشكل والمضمون، بدعوى تبييت هذا الأخير التآمر من أجل إصهاره في مجتمعه وسلخه من ثقافته ودرع حمايته. دون أن ننسى كثرة الطابوهات المتوهمة في دينه، والمنسوجة في مخياله من كل جانب؛ الأمر الذي يدفعه إلى التقوقع حول الذات الجمعية والاحتماء بالماضي والتكثر بالأقران.

ذلك التقوقع الذي يجعل عقله الباطن – إن لم يتفطن – ميالا لا إلى اختيار الآراء الفقهية المساعدة على التعايش الآمن، والتعاطي السليم مع الجيران في الوطن، وإنما إلى اختيار الآراء التي تتكيف مع عقله المشوش وقلبه الخائف، والتي يأمّن بها شواشه العقلي، ويهدئ بها روعه القلبي. فيختار وينتشي للنصوص الوحيانية، وكذا الآراء التراثية التي تدعو إلى المخالفة والتميز والعزة، دونما حسن تنويط ولا حسن تسييق، أي دونما مراعاة لصلوحية المناطات الغربية لتنزيل تلك النصوص والآراء عليها.

 

العامل الإبستيمولوجي:

يصعب أن نطلب من المهاجر البسيط بضبط مصطلحاته، وضبط مناهج تلقيه للعلم، وحسن اختيار مصادر معرفته الدينية، لأنه ضعيف المناعة ضد المذاهب الفكرية التدينية باختلاف قنواتها، وقليل الحصانة ضد المعارف الوافدة المختلفة من الشرق كما من الغرب. فتجده جاهز التقليد، وسهل التطبع مع الأعلى صوتا والأكثر ذيوعا والأقوى تأثيرا والأسهل فهما والأيسر تناولا، والأقرب تداولا. بغض النظر عن مدى صلوحيته للتداول في الحقل الدلالي الديني في أوروبا، ودون اعتبار للقوانين المتبعة المنظمة للشأن الديني والاجتماعي ولا للقيم الأخلاقية والإنسانية التي ارتضاها العقل الجمعي الغربي. وهذا كله من ناحية الجاهزية والاستعداد لتبني الفكر وفكر التبني.

أما من ناحية اختيار مصادر المعرفة ومَلَكة بناء المناهج  وفق رؤية واضحة ورسالة محددة، فذلك أمر في التعقيد غايةٌ، لكون مسالك الاختيارات الفقهية ليست بذلك التجريد كما يظنه الأكثرون وإنما تطور بناؤها في التاريخ عبر قنوات مجتمعية وأخلاقية وحتى سياسية.

فتجد المواطن المسلم الأوروبي البسيط يتبنى آراء ويقرأ كتبا كتبت لسياق يختلف عن سياقه، ولطباع تختلف عن طباعه، وفي حقبة تختلف عن حقبته، ولا يكتفي بذلك وإنما يجتهد في الدعوة إلى استنباتها في أوروبا، لأنه يراها بكل بساطة الحق المطلق، فاستغنى بها عن غيرها، وازداد وثوقية بها، الشيء الذي دعاه إلى معاداة كل فكر مستنير أو نظر متجدد أو قراءة مشربية أخرى ملائمة.

فهو يرى أن اقترابَه من النص واكتفاءَه بالنظر إلى رسمه وسياقه اللغوي على أبعد تقدير، هو الفضاء الدلالي المتاح الوحيد للاشتغال. وهو الحقيقة، التي في نظره لا يجوز تجاوزها إلى المجاز، الذي يَفْسِرُ ويخدم السعة إلى جانب التأكيد أو التشبيه، التي هي بدورها تفتح مجالا لإضافة نوعية لمنظومة ومصفوفة النص، بإغناء دلالاته بمعانٍ كامنة وفهوم ممكنة يحتملها ويتضمنها، وذلك وفق القواعد والمناهج والأسس التي وضعها العلماء في مختلف الاختصاصات. 

 فيكون المكتفي بظاهر النص الواقف عند رسمه، حاكما على المعنى بالانغلاق والانسداد، وعلى اللفظ بالذبول والخمول. فيفوّت على نفسه التذاوت مع روح النص وتعالياته.

 

العامل الآيديولوجي

منذ أربعة عقود والتيارات الإسلامية في أوروبا تشد انتباه الناس إلى يد الحاوي الفارغة التي تَعِدُ وتُمَنِّي ولا توقف الناس على حقيقة، فأنفِقت الأموال والأوقات والأمِدَّة (ج مـداد) على تثبيت مفاهيم ذات حمولات زئبقية متلونـة لا ترسو في مرسى، وشُحنات لا توجد إلا في أذهان أصحابها.

إنها تصورات قلقة وغير مختبرة بالشكل الكافي عن الخلافة والشـريعة والجهاد والحاكمية والولاء والبراء… جاء بها المنتمون إلى التيارات والحركات الإسلامية إلى أوروبا، وقـد تشبعوا بتهيئات تطبيقية مضطربة وبعيدة عن الواقعية والإمكان التصوري بله التنزيل العملي.

وعوضا من أن يشتغلوا على تربية الإنسان السوي المتصالح مع نفسه، المستقيم في معاملاته في هذه البلدان، بـدأوا بالاشتغال على تكثير الأتباع، وتكوين الأعضاء، والسعي نحو هدفهم الأكبر، الشـيء الذي قسّم المسلمين إلى فئات عديدة، يشتغل بعضها بتصحيح مسارات البعض الآخر، بينما يشتغل البعض الآخر باقتناص المصلين الجدد كفريسة بريئة خام، وتطويعها وتشكيلها كما يراد لها أن تكون.

وبعلوّ صوت تلك الفئات على المنابر، وعرض أفكارهم بِوُثوقية زائدة في المحافل العامة، تَمَّ إحراج الجماهير المعتدلـة التي تتغيّا التواصل والتعايش والتنافع والتساكن مع جيرانهم، حتى بات المسلمون في أوروبا يُظهرون ألوانا من التدين، وأطيافا متعددة من الآراء الدينية المعلنة، أربـكت الرأي العام بكل طبقاته الاجتماعية والسياسية.

فلم يدر العاملون في الحقل الديني المستبصـرون بِمَ يشتغلون، وأي المجالات يطرقون، أبتصحيح المفاهيم أم بتعديل السلوكات، أم بالاشتغال بتنشئة الأجيال على الإيجابية والمشاركة والعطاء، ومساعدتهم على البقاء والإبقاء على الفطرة السوية؟، الشـيء الذي أدخل المسلمين في هذه البلدان في طاحونة أزمات داخلية استنزفت الجهد والمال والوقت. 

كل ذلك حال دون انطلاقـة المسلمين إلى الأمام في هذه البلدان بالإنتاج والترقي والشهود الحضاري اللائق، وبقوا يراوحون مكانهم بل يرجعون القهقرى، بعد أن برهنوا، أن كونهم مسلمين، غير قادرين على مواكبة الفعل الحضاري، إنتاجًا ولا تعاطيا ولا حتى قبولا.

لست هنا في مقام التحليل والمناقشة والتقعيد، ولا في مقام تبريز أخطاء التيارات والحركات العديدة، وإنما في مقام بيان آثار فعلهم الديني على مسلمي أوروبا، وعلى الأروبيين أنفسهم. فقد اشتغل معظم أبناء التيارات بالحرب الأفـغانية السفياتية (1979-1989) تنظيرا وتفاعلا، ثم أشغلوا بعد ذلك الساحة الأوروبية بقضية الجماعات الإسلامية في مصـر، ثم بقضية حرب البوسنة والهرسك (1992-1995)، وقضية الجزائر الدامية (1992-2002)، ثم التعاطفات مع القاعدة (منذ 1988)، وطالبان (1994-2001)، ثم إنه منذ سنة 2011، ونحن نعيش أزمة القضية التونسية والليبية والمصـرية والسورية والحروب المشتعلة في الشـرق الأوسط.. وعلى الأراضي الأوروبية، وتحديدا في منابر الجمعة وقاعات المحاضرات، وأثناء جميع تلك المراحل اشتغـل بعضهم وما يزالون بوهم خلافتهم وخطاباتـهم السياسية الرنانة بتكفير الحكام والحكومات وذم الديمقراطية، وفي حين اشتغل آخرون بتصحيح العقائد ومحاربة اعتقاد الأشاعرة والماتوريدية وسلوك الصوفية وفقه المذاهب الأربعة، وخلقوا فتنا ما زلنا نؤدي ثمنها في أوروبـا، وآخرون يقيمون تجمعاتهم ومحاضراتهم ويتحدثون عن الديمقراطية كوسيلة إلى أهدافهم الكبرى، وتحكيم الشـريعة كحمولة ثابتة في العقل الجمعي للحركة، وآخرون يسْبَحون في واد آخر مع أحلامهم، ومع نشود الخلافـة والتغني بالمظلومية، وآخرون جدد، منشغلون بتكثير الأتباع والاشتغال على عواطف العوام واستمالة تأييدهم عن طريق لعب دور الضحية، ومحاربة المفسدين لهم. كل هذا يجري داخل أسوار أوروبا، وكأننا ليس لدينا أي تحديات، ولا مسؤوليات جِسام في هذه البلدان. 

ومن المؤكد أن هناك فرقا بين الاهتمام بأمر المسلمين في العالم وبين الانغماس والذوبان في قضايا لا تعدو عن كونها قضايا سياسية اقتصادية تدور حول المصلحة بالدرجة الأولى وجودا وعدما، ولبست لباس الدين لكسب تأييد العوام والبسطاء، وبين ترك قضايانا كمسلمي أوروبا، فنحن نواجه مشاكل اجتماعية وتعليمية وتربوية واقتصـادية لا حصـر لها، وعندنا مسؤوليات جسام في الدول التي نعيش فيها، فلماذا إذاً نستنزف الطاقات والأوقات والجهود  في قضايا لم نكن سببا في إثارتها؟، وقطعا لن نكون جزءا من حلها.

وكل ذلـك – قطعا – يدفع العقلاء إلى  مضاعفة الجهود في خلق التوازن عند أفراد المسلمين، والانكباب على قضاياهم، دراسةً وتشخيصا واستجادة للحلول المناسبة، وتأسيسا للبنى التحتية في المجالات الحيوية المتعددة، أو بالأحرى مساعدة المواطنين المسلمين على الاستفادة من المؤسسات الأوروبية الموجودة، للترقية من إنتاجهم، وتحسين اندماجهم، وتطوير طاقاتهم، وكذلك مساعدتهم على الإبقاء على ذلك التدين الأهلي الموروث، من إيمان راسخ، وعبادة مثالية وخلق رفيع، وتَسَامٍ عن الرذائـل والموبقات والأخلاق الذميمة.

 

العامل السياسي

لم يعد المسلم في أوروبا حرا متروكا لفطرته وبساطته واختياره، ليتعاطى مع محيطه بشكل سليم، دون مؤثرات ومتدخّلات. ولم تعد الفرصة سانحة لاختلائه بنفسه، وأخذ الفرصة في اختبار كل دخيل وليج على عقله، فيختار ما ينسجم مع طبيعته وبيئته وفطرته، ويدفع عنه ما يزعجه من المكدّرات والمنغصات. فتَعَاقُبُ ثقافة الصورة وانصبابها المتتابع، يجعله يجد نفسه متعجلا في تبني كثير من الآراء وإعادة نشرها، وطرد ما ينافيها وتعنيف حاملها، لكونها ملأت ذهن المتلقي وقلبه، بانتشارها الفايروسي في كل المرئيات والمسموعات.

ومن جهة أخرى، فالأحداث العالمية العنيفة صارت تأخذ حيزا كبيرا من تفكير مسلمي أوروبا، وتملك عليهم أحاسيسهم ووجدانهم، نظرا لما تمر به بعض بلدانهم الأصلية من حروب طائفية، وانتكاسات سياسية، وتراجعات اقتصادية، ومآسٍ إنسانية؛ الأمر الذي يعود على الأسرة المسلمة في أوروبا بالتوتر، وعلى التربية بالاضطراب، وعلى التفكير بالتشويش، وعلى الواجبات اليومية بالتقصير، وعلى الأعباء بالتزايد.

ومن جهة ثالثة، فإن تدفق مزيد من اللاجئين، وتكاثر المسلمين، وتنامي ظاهرة العنف، وزيادة ظاهرة الإسلاموفوبيا، ونمو ظاهرة الإسلام السياسي، كنتيجة حتمية للأوضاع العالمية المتوترة وتداعياتها على النفوس، = دفع الحكومات الأوروبية إلى سن مزيد من التشريعات والقوانين، ضبطا للأمن العام وتقليلا من التوترات.

كل هذه العوامل تعتبر تحديات وعوائق تعترض طريق الإسهام في بناء الشخصية المسلمة الأوروبية المتزنة المتوازنة العاقلة، والمشارِكة الإيجابية الشامخة. 

إن الحديث عن أي نموذج وسط في أوروبا لم يصادف قلوبا خلوة جاهزة للقبول والتفاعل، قلوبا متشوقة ومتشوفة للاعتناق فضلا عن الترويج والإيذاع، بل وجدت إعلاما صائتا مذويا يسلب المرء عقله الظاهر منه، ويبني له فكره ويشكل له عقله الباطن وذاكرته السياسية والدينية. الشيء الذي جعله يغلق آذانه، ويتصامم أمام أي نداء يخالف ميوله. كما وجد أمامه نموذجا اجتهد أصحابه في استنباته في أوروبا ومعظم دول العالم الإسلامي، بإنفاقهم للأموال في طباعة الكتب وإرسال البعثات واستقبال الطلبة بالإضافة إلى الحدة في إقصاء المخالف.

ومن جهة أخرى، نجد ضعفا في وسائل إقناع الناس بنموذج منفتح وسط، كما في السبل المتخذة لعرض هذا النموذج كبديل، فضلا عن عرضه كأصيل، فهناك نقص في المطبوعات عموما كتبا ودفاترِ ومطوياتٍ، وكذلك المرئيات والفضائيات، وكذلك الكوادر والكفاءات العلمية والإدارية والسياسية وحتى الأمنية لخدمة هذا المشروع الضخم، باعتباره الأمل والفرج. 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

خمسة + واحد =

زر الذهاب إلى الأعلى