أخبار الدار

العفو الملكي عن هاجر يفتح الطريق الثالث في قضية الحريات

الدار / رشيد عفيف

العفو الملكي الذي صدر في قضية الصحافية هاجر الريسوني يحمل دلالات سياسية عميقة ومتشعبة. وأكبر دليل على ذلك هو جدل التأويلات الذي فتحه هذا القرار الذي كان مفاجئا للجميع. فضد كل التوقعات المتشائمة التي كانت تعتبر القضية مؤامرة ضد الصحافة أو ضد تيار مجتمعي معين جاء هذا العفو ليؤكد حقيقة ساطعة مفادها أن الملك ملك الجميع لا فرق بين إسلامي أو اشتراكي أو ليبرالي. ولا توجد وسيلة أكثر نجاعة تمر عبرها هذه الرسالة من آلية العفو التي يخولها الدستور المغربي للملك. لكن ليست هذه هي الرسالة الوحيدة التي انبثقت من هذا القرار، هناك أيضا ارتباط واضح بينه وبين النقاش الدائر منذ شهور حول قضية الحريات الشخصية وعلى الخصوص حول قضية رفع التجريم عن العلاقات الجنسية الرضائية.

قبل فترة خرج ائتلاف "خارجات على القانون" عقب توقيف الصحافية هاجر الريسوني وخطيبها في قضية الإجهاض ليطرح على ساحة النقاش العمومي قضية حقوقية تتعلق بالحريات الفردية والمطالبة بضرورة إنهاء المتابعة الجنائية للأشخاص الذين تلحقهم تهمة "الفساد". هذا التزامن بين تلك الدعوة وقضية هاجر ليس اعتباطيا، بل هو براعة واضحة في اقتناص اللحظة السياسية الملائمة لبسط هذا الطرح. لكن قبل هذه الدعوة بأسابيع وفي غمار الاحتفالات بعشرينية عيد العرش برزت بعض العناوين المثيرة من جهات رسمية محسوبة على جهاز الدولة كان أشهرها تصريحات وزير العدل السابق محمد أوجار لصحيفة "إلباييس" الإسبانية التي أكد فيها أن المجتمع المغربي مجتمع محافظ لا يمكنه بأي حال من الأحوال في الظرفية الحالية أن يقبل إصلاحات تمس قضايا حقوق بعض الفئات كالمثليين أو قضية العلاقات الجنسية أو مسألة الإجهاض.

وبين ائتلاف "خارجات على القانون" وتصريحات الوزير السابق في العدل تبدو الهوة كبيرة في فهم تطورات المجتمع المغربي واحتمالات تغير الطباع والقيم السائدة فيه. لكن العفو الملكي الأخير جاء ليقدم صورة وسطية بين "تساهل" الائتلاف و"تشدد" وزير العدل. لقد ظهر هذا التصور الوسطي المعتدل في ثنايا بلاغ وزارة العدل عندما تعاطى مع التهمة المنسوبة لهاجر وخطيبها بقدر كبير من النسبية وهو يورد عبارة "الخطأ الذي قد يكونا ارتكباه" ويمكن أن نضع تحت "قد" أكثر من سطر في إشارة واضحة إلى أن تصور المجتمع والقانون لمسألة الخطأ أمر ينبغي التعامل معه بقدر كبير من التريث والرزانة.

هذا ما حاول العفو الملكي عن هاجر تكريسه في الظرفية الحالية. لقد تفاقم الجدل وتوتر النقاش العمومي بين طرفي المجتمع، وبدا أن الأمر قد يحدث نوعا من الانقسام بين "المتساهلين" و"المتشددين". إن الدور الذي رام هذا العفو القيام به ببساطة هو تهدئة النقاش، لمحاولة النظر إلى القضية بنوع من الروية ومنح الوقت الكافي لإنضاج التصورات قبل اتخاذ القرار المناسب. هذا يدفعنا إلى التأكيد على أن التعاطي القانوني مع هذه النوعية من القضايا لا بد أن يعرف في المستقبل نوعا من التغيير قد يكون شبيها بما تم اتخاذه من قرار في مسألة عقوبة الإعدام. فهي عقوبة ينص عليها القانون الجنائي وينطق بها القضاة لكنها في النهاية لا تنفذ. ماذا لو تحولت العقوبات المكرسة في القانون الجنائي ضد تهمة الفساد إلى عقوبات موقوفة التنفيذ؟

هذه هي التخريجة المناسبة للدولة في الوقت الراهن بالنظر إلى أنها لا تستطيع أن تذهب بعيدا في مسألة إلغاء تجريم العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج. وهناك أسباب سياسية وثقافية وظرفية عديدة لن تسمح باتخاذ قرار بهذه الجرأة اليوم. فالسلطات لا تستطيع اليوم أن تغامر بتماسك الجسم السياسي لأن إجراء من هذا القبيل لا يمكن أن يتم في ظل حكومة يقودها حزب إسلامي. فالأمر قد يعني مغامرة بالتجربة التي مثلها حزب العدالة والتنمية والتي تعاني أصلا من أسباب الانهيار الكثيرة. كما أنه لا يمكن اتخاذ هذا القرار ما لم يتم إيجاد تخريجة فقهية ودينية مقنعة. لا يجب أن نتجاهل أن الشرعية الدينية التي يمثلها الملك في المغرب تستمد أسسها من احترام ما ينص عليه المذهب المالكي الذي يعتبر رأيه في قضايا من هذا القبيل الأخلاقي واضحا.

كما أن السلطات تتمتع بقدر من الذكاء يكفي ليجعلها تتفادى الوقوع في مطب تزكية نظرية المؤامرة التي واكبت قضية اعتقال هاجر الريسوني. إذ لم تتردد الكثير من التحليلات التي واكبت هذه القضية في الحديث عن اعتقال سياسي موجه هدفه تفجير النقاش حول قضايا الحريات الشخصية. هذه القراءة المؤامراتية تدرك السلطات مدى تأثيرها على صورة المؤسسات وعلى الدور السلبي الذي يمكن أن تلعبه في الإجهاز على البقية الباقية من ثقة المواطنين. لأجل ذلك لن تتيح الدولة الفرصة أمام تطور فرضية المؤامرة وستتفادى على الأرجح إقرار إجراء من هذا القبيل في الوقت الراهن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

18 − 13 =

زر الذهاب إلى الأعلى