الدين والحياة

سالم يفوت: رائد فلسفة العلم والعقلانية المعاصرة

منتصر حمادة

سالم يفوت، مفكر مغربي أبدع في صمت، ورحل عنا في صمت. بهذه الإشارة نفتتح هذه المقالة المتواضعة في حق الفقيد سالم يفوت، أحد أعمدة الفلسفة العربية المعاصرة، والذي رحل عنا في صباح 14 شتنبر 2013، عن ناهز 66 سنة (1947 ـ 2013)، بعد مرض عضال لم ينفع معه علاج، مخلفاً وراءه أعمالا فكرية قيمة في حقل الدراسات الفلسفية على وجه التحديد، حتى إن الراحل يُعتبر أحد رموز الحقل الفلسفي في الساحة العربية، ويكفي أنه أسهم بشكل كبير في التعريف بأعمال الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، ترجمة وتعريفاً.

كان يفوت مؤمناً بأهمية ودور تدريس الفلسفة في ترويج الخطاب العقلاني لدى الطلبة والباحثين وبالتالي المساهمة في ترويج هذا الخطاب لدى العامة، وقد انعكس هذا الإيمان بشكل كبير على طبيعة أعماله، (وهو مؤلف كتاب "فلسفة العلم والعقلانية المعاصرة"، 1982؛ أو "فلسفة العلم المعاصر ومفهومها للواقع"، 1985؛ "العقلانية المعاصرة بين النقد والحقيقة"، 1989؛ "المناحي الجديدة للفكر الفلسفي المعاصر"، 1999)، وكان مدافعاً شرساً عن تدريس الفلسفة في أطوار التعليم الثانوي والجامعي، في الحقبة التي كانت الفلسفة تتعرض للحصار والتهميش، ومن هنا كانت أسباب نشره لأولى مقالاته ودراسته في مجلة "أقلام" التاريخية، إلى جانب الراحل محمد عابد الجابري أو عبد السلام بن عبد العالي ومحمد سبيلا ومحمد وقيدي وغيرهم كثير، وكذلك أسباب صدور أغلب أعماله الأولى عن دار "الطليعة" الدمشقية.

ولد سالم يفوت بمدينة الدار البيضاء سنة 1947 ، تابع دراسته العليا في الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط حيث حصل على الإجازة سنة 1968، قبل حصوله على دبلوم الدراسات العليا سنة 1978، ثم على دكتوراه الدولة سنة 1985. وانضم الراحل إلى اتحاد كتاب المغرب في دجنبر 1977 كما انتخب سنة 1992 نائبا لرئيس الجمعية العربية.

اقترن اسمه في الساحة العربية ـ إلى جانب المفكر محمد وقيدي ـ بمفهوم الإبستمولوجيا، من خلال عمله الشهير "درس الإبستمولوجيا"، ألفه بالاشتراك مع عبد السلام بنعبد العالي (1985)، أو من خلال مشاركته في عمل جماعي حول "تاريخ العلوم والإبستمولوجيا" (صدر في غضون 1996)، وقد أطر في هذا الصدد مجموعة من الأطاريح الجامعية، وأسهم في تنسيق عدة ندوات فكرية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط.

لخص محمد الشيخ باقتدار شخصية الراحل في بضع كلمات: "شموخ النفس، والتفاني في العلم، والتواضع الجم، والعطاء الذي لا ينقطع.. عاش متفانياً في رسالته، ومات من غير أن يزعج أحداً". أما سعيد بنسعيد العلوي، فأشاد بخصال الراحل الأخلاقية، إنساناً، أستاذاً ومثقفاً. إذ اعتبر أن يفوت أبلى بلاء حسناً في الفلسفة المغربية، إبداعاً وكتابةً وترجمةً وإعداداً للمناهج، وصحافياً أيضاً على اعتبار أنه كتب وترجم في جريدة "فلسطين"، التي أصدرها الوديع الآسفي في السبعينيات من القرن الماضي. ثم توقف عن صفات أربع تحلى بها الراحل خلال حياته: الحياء، الصدق، الجدية، والتفاني في خدمة الآخرين. وختم بذكر ملامح تشكل مشروعه الفكري، حيث اعتبر أن اهتماماته الفكرية فرضتها سنوات التدريس، وأثرت فيها الفلسفة المعاصرة بقوة، خاصة الفكر المادي الجدلي الماركسي، والدرس الإبستيمولوجي (باشلار، فوكو، ألتوسير).

نقرأ في شهادة للمفكر عبد السلام بن عبد العالي، صدرت في حق الراحل على هامش تكريمه في غضون يناير 2012: "من حسن الحظ أن هناك من حاول التمرد على هاته الرؤية الانفصامية، وفي أقسام هاته الكلية بالضبط، وهذا ليس في مجال الفلسفة وحده، بل حتى في الدراسات النقدية والأبحاث التاريخية. هذا التمرد ذاته هو ما سيطبع في ما بعد دراسات أساسية، حاول فيها الأخ يفوت، بعد أن اجتاز صعوبات البحث الأكاديمي، وتحرر من العقبات التي يقيمها ضد البحث، أن يتعامل مع بعض مجالات ما يمكن نعته بالإنتاج العلمي في الثقافة العربية معاملة مغايرة، تُعيد النظر في مفهوم تاريخ الأفكار، بل في الهدف من دراسة الإنتاج العلمي ذاته، وفي الدور الذي كان لذلك الإنتاج في سياق الثقافة العربية الإسلامية، اقتداء بأبحاث رشدي راشد ، كي تُعيد الاعتبار للعلم العربي ضمن تاريخ العلم، وتتحرر من هوس الاهتمام بالتراث قصد تجميع ما يمكن أن يكون إثباتاً لسبق تاريخي أو بحثاً عن نظائر أوربية".

النبل والأخلاق، من القيم الأخلاقية التي اشتهر بها الفقيد، حيث عُرف عنه عدم الانخراط في صراعات أكاديمية أو شخصية ضد زملاء مفكرين وباحثين وأساتذة، كما اشتهر بالابتعاد عن الأضواء وعن المنابر الإعلامية. وفي هذا السياق، نقرأ تواضع عدد مساهماته في الملاحق الفكرية أو الثقافية التي تصدر في الساحة، على قلتها، والأدهى إن صح التعبير، أنه كابد معرفياً رغم معاناة وتبعات مرحلة "سنوات الرصاص"، بكل المخلفات التي تركتها تلك الحقبة على حالته الصحية، حيث مرّ من تجربة السجن في وجهها القمعي، بما ولدته من خيبة أمل داخلية جعلت المرحوم يبتعد عن السياسة والاختيارات الإيديولوجية.

يمكن حصر أهم أعماله في العناوين التالية: مظاهر النزعة الإخبارية في بنيوية ليفي ــ ستروس؛ مفهوم الواقع في التفكير العلمي المعاصر (1980)؛ الفلسفة، العلم والعقلانية المعاصرة (1982)؛ فلسفة العلم المعاصر ومفهومها للواقع (1985)؛ العقلانية المعاصرة بين النقد والحقيقة (1989)؛ ابن حزم والفكر الفلسفي بالمغرب والأندلس (1986)؛ درس الإبستمولوجيا (بالاشتراك مع سالم يفوت وعبد السلام بنعبد العالي)؛ حفريات المعرفة العربية الإسلامية (1986)؛ حفريات الاستشراق: في نقد العقل الاستشراقي (1989)؛ الفلسفة والعلم في العصر الكلاسيكي (1990)، الزمان التاريخي (1991)؛ كما أشرف على مؤلفات نوعية في التفكير المعرفي، وفي الإبستمولوجيا بالتحديد، نذكر منها "كيف يؤرخ للعلم؟" (1996)، و"التفسير والتأويل في العلم" (1997)، و"مفهوم التقدم في العلم" (2004)، كما ساهم في ترجمة بعض الأعمال المرجعية للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، ونخص بالذكر كتاب "حفريات المعرفية" و"الكلمات والأشياء"، كما ترجم لجيل دولوز أيضاً، من خلال كتابه "المعرفة والسلطة: مدخل لدراسة فوكو". وبكلمة، ساهم الرجل في إغناء حقل التأليف الفلسفي، دون أن ينال كامل الاعتراف الذي يليق به، وهو الذي ألف في فلسفة العلوم وترجم كتب ميشيل، وأنشأ مجموعات البحث في تاريخ العلوم، وأعمال أخرى يصعب حصرها، وفوق هذا، كان يؤلف بعمق فكري ودقة منهجية ومنطق فلسفي وحس ثقافي عال، سواء فيما يتعلق بالتراث الإسلامي (كما هو الحال مع أعماله ذات الصلة بابن حزم)، أو الفكر الفلسفي المعاصر (كما هو الحال مع أعماله التي اشتغلت على التعريف بمشاريع جموعة من الفلاسفة الفرنسيين، وخاصة الثلاثي غاستون باشلار وميشيل فوكو وجيل دولوز).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اثنان × واحد =

زر الذهاب إلى الأعلى