سَوَاسِية كأسْنانِ المُشْطِ !!
صلاح بوسريف
ليس من الضَّرٌورِيّ أن نكون مُتَّفِقِين ومُتَجانِسِينَ في كل شيء، هذا غير ممكن، ولا أثَرَ له في تاريخ الوجود البشري. فالأرضُ الواحدة التي تَجْمَعُنا، هي فَضَاء بَشَرِيّ عُمْرانيّ، مُتاحٌ لنا بنفس القَدْرِ، فيه نجتمع، ونلتقي، ونتعايش، ونتحاور، ونُعَبِّر عن رأينا، وعن طبيعة الرؤية التي بها ننظر إلى هذا الفضاء الذي نُسَمِّيه وَطَناً. الشيء الوحيد الذي نرغبُ أن يَسْرِي عليْنا، جميعاً، وبنفس المقدار، ونفس الدرجة، ودون تَمْيِييز، أو فَرْقٍ في الدَّرَجَة والنَّوْع، هو القانون.
اختلالُ العلاقات بين أفراد الشَّعب الواحِد، والوطن الواحد، يبدأ من اختلال تنفيذ القانون وتطبيقة. فمكيال القانون، هو مكيالٌ واحد، لا ينقُص ولا يزيد، ولا يكون صالحاً، في وضع زَيْدٍ، وغير صالح في وضع عمرو، فزيد وعمرو، هما نفس الشخص أمام القانون، كُلّ منهما يُحاسَب ويُعاقَب، بحسب الجُرْمِ الذي ارتكبه، أو كان سبباً من أسبابه. فحين يصير زَيْد فوق القانون، قياساً بعمرو، فهنا، بالذات، تشرع علاقة البشر بالاختلال، ويفقد الوطن أحد أهم ما يضمن تماسُكَه، ونظامه الاجتماعي والسياسي، لأنَّ عمرو، في هذه الحالة، سيُدْرِك أنه ليس هو زيد، رغم أنهما، معاً، من نفس الأرض، وتجري فوقهما نفس السُّحُب والغيوم.
الغرب، أهمِّيَتُه، تكمن في هذا الشَّرْط، أعني شرط التَّساوِي أمام القانون، وأن القانون، لا يَعْرِفُ الإنسان بانتمائه، ولا بنسبه، ولا بما في يده من سُلَط، أو ما يتحمَّلُه من مسؤولياتٍ، كيفما كان نوعها، فالكُلّ، في عين القانون «سَوَاسِيَة كأَسْنَان المُشْطِ»، كما جاء في الحديث النبوي، الذي بَقِيَ مُجرَّدَ حديث، عندنا، لكنه، واقع عند الغربيين، وفي المجتمعات الغربية، التي، رغم وجود الفوارق والتَّمَايُزَات بين الناس فيها، اجتماعيا، أو عرقيا، أو سياسيا، أو اقتصاديا، أو ثقافيا، فالإنسان فيها يعرف أنَّه أمام القانون، يصير بنفس الدرجة، وبنفس اللون، ويُزَنُ بنفس الميزان، ولا يخاف من الظُّلْم، أو القهر، والازدراء. لا أدَّعِي أنَّ القانون في الغرب لا يُخْطِيءُ، أو يتعرَّض للانتهاكات التي يشعر معها الإنسان بالظُّلْم، لكن هذه ليست القاعدة، بل الاستثناء، وفي الغرب، عموماً، وجود خطإ، أو ظلم، أو قهر وازدراء، يقبل التصحيح، طالما صاحب الحق يُطالِب بحقِّه، و لا يخْنَع، أو يقبل بالظُّلْم، أو كما يُقال «ما ضاع حَقّ وراءه طالِبٌ»،
يعود بي هذا إلى رواية «إبن فطومة» للروائي الراحل نجيب محفوظ، التي جاءت مختلفة عن أعماله الواقعية، وفيها جعل إبن فطومة يتنقَّل من أرض إلى أرض، ويرى كيف تجري فيها نُظُم الحكم، والعلاقات بين الناس، إلى أن وَجَد أرْضاً، الناس فيها ليسوا سواسية في طريقة العيش، ولا في الوضع الاجتماعي، وسُبُل العيش بينمها مُتَبَايِنَة، لكنهم لا يهتمون بذلك، ولا يلتفتون إليه، لأنهم سواسية أمام القانون، الذي، عندهم، لا يعرف الفرق بين زيد وعمرو، بل كُلُّ يُحاسَب بما اقْتَرَفَه من ذنْبٍ، والفقير، لا يَشْعُر أنه فقير، لأنَّه أمام القانون، يعرف أنه سينتصر على الأغنياء، في حالة ظلمهم له، أو سعيهم لاستغلاله، أو انتهاك حقه في العيش والحياة.
ما لم يصبح القانون عندنا سلطة فوق كل السُّلَط، وشريعَة تجري على الجميع بنفس المِقْدَار، ولا أحد يَحْشُر أنْفَهُ فيه، بتغيير مجراه، أو يضغط في اتجاه تكييف الأحكام بحسب الأشخاص، فلن نَحُلَّ معضلة الشُّعور بالظلم، والفوارق الاجتماعية، وما يعيشه الناس من تمايُزَاتٍ في المأكل والمشرب، وفي الشُّغْل والأجْرِ. فالقانون، حين يصير أعمى، بالمعنى الإيجابي، سيُخَفِّف الآلام، ويَرْأب ما يجري من شُرُوخ بين الناس، وسيجعل الوطن يكون وطن الجميع، لا وطن زيد دون عمرو، أو وطن المُرَفَّهِين، ضِدَّ المُعْوِزِين، وهذا ما يفوقنا فيه الغرب، الذي تغيَّر فيه فكر الإنسان وسلوكه، بوُجود شريعة واحدة تحمي الجميع، وتكفل الحقّ، لمن هو صاحب حَقٍّ مهما كانت طبقتُه الاجتماعية، أو وضعُه المادي والاقتصادي، عموماً.