غير مصنف

سياسة الاعتكاف بين الدين والدنيا

د. عياد أبلال

تشكلت العلاقة في الإسلام على أساس التمفصل الرفيع بين العبادات والمعاملات، بين العمل الروحي التعبدي والعمل الاجتماعي، بين الفردانية والجماعة، بشكل جعله شديد الخصوصية،  في تكريسه لفلسفة الحياة، كونها بالأساس إعمار للأرض وإبداعاً للحضارة، ومن هنا، فإن مكارم الأخلاق التي جاء بها نبيينا الكريم محمد صلوات الله عليه، هي في العمق الأساس النظري والعملي في الآن نفسه لهذه الفلسفة في الوجود ومن أجل الوجود.

ضمن هذا الأفق، يمكن الحديث عن العبادات، باعتبارها ذلك الوسيط العلائقي بين الله وعباده بالمفرد أكثر من كونها علاقة جماعية، وهنا يتأسس الشرط الروحي والتأملي للعبادة، وهي علاقة لا تقبل الوساطة ولا تستسيغ رهبانية ولا وكالة. إنها علاقة روحية لا تنفصل عن بعدها العملي، طالما أن الكد والسعاية بتعبير ابن خلدون، وسيلة لاكتشاف ضيق الشرط البشري، وتناهي البعد الإنساني في علاقته بالجسد، لكنها وهي تتوسل العقل لقراءة رموز الكون وآياته، تجعل من هذا الضيق فسحة للإبداع والابتكار والخلق والتجديد. لقد كانت العلاقة بين الدين والعلم، بين العقل والروح والقلب، علاقة شديدة الخصوصية، شديدة التركيب، بحيث أن تغليب جانب على جانب آخر يعد خرقاً لنواميس الكون، وفصلا للإنسان عما يستطيعه من إعمار الأرض والعمران والحضارة.

إن سياسة التعبد في الإسلام المحمدي، على الأقل، قبل أن يضحي الفقه بالعقل والعمل والفن والحضارة، مضحيا في ذلك بثقافة الحياة لصالح ثقافة الموت، ولثقافة الشجاعة والحب والعمل لصالح ثقافة الخوف، هي سياسة لا تفصل جانب العبادات، بما هي موجبة وجالبة للحسنات، عن العمل الصالح، بما هو إعمار الأرض وابتكار الحلول لمشكلات البشر وتوسيعاً للرزق، ولذلك، ما فتئ النبي الكريم يركز على الصالحات، وتركيزه في ذلك تأكيد لما جاء في القرآن الكريم. من هنا، فعمل الخيرات، حتى وإن كان مرتبطاً على المستوى النظري بالعبادات، فإنه لا يستقيم إلا بالسعي والكد من أجل العمل، وبفضله تتكرس هذه الخيرات أعمالا صالحة يستفيد منها العباد، كما تستفيد منها كل مخلوقاته تعالى، ومن هنا، ففصل الجانب التعبدي عن العمل، بالاعتكاف في المساجد والإكثار من النوافل والاغراق في الجوانب الشكلية التعبدية، وقد فصلت أخلاقيا عن تجلياتها في العلاقات بين الناس، بما هي علاقة التعاون والعمل، هو  فصل يفقد الإسلام أبعاده الأخلاقية والقيمية، كما يفصل مكارم الأخلاق عن مكارم الأعمال.

إن الدعاء كفلسفة في الإسلام، قبل أن يتحول إلى مجرد نداء ورجاء تعبدي، هو تتويج وتدشين لسيرة الأعمال التي تظهر بركاتها في الصالحات، وإلا فما فائدة الدعاء إذا فصلت العبادات عن المعاملات والأعمال الصالحة، بما تتطلبه من توظيف للعقل والجهد والمثابرة، وبما يرتبط بتحسين شروط الحياة ومناخها، ولذلك، فليس العبرة بكثرة السجود، لطالما أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل  علينا في الدين من حرج، وهو الذي أوصانا بصلوات خمس لا سادسة لها، فما الفائدة من قيام الليل سجودا وركوعاً، إذا كانت سيرة أعمالنا في الدنيا سيرة سيئة الذكر نهاراً؟ 

إذا كنت بالرغم من كوني أعتقد أن العمل أبلغ أجرا وأنفع مصلحة للإنسان من الاعتكاف في المساجد، وأنني مع حق أيا كان في أن يعتكف في المسجد للصلاة، وعلى الدولة أن تحمي هذا الحق، لإيماني بأن  الحرية شرط للوجود، وشرط للدين نفسه، فإنني من داخل هذا الدين المشترك أرى بأن سياسة الاعتكاف هي سياسة تفصل الدين نصفين متعارضين، بفصلها مكارم الأخلاق عن مكارم الأعمال، وهو ما يخفي نظرة ورؤية لا تخلو من غلو، كما لا تخلو من عبث، وهو عبث توظيف الدين في السياسة، وهنا السياسة بمعنى  تدبير الممكن الاجتماعي والثقافي والسياسي ليس تدبيراً مدنياً، بل تدبيراً دينياً، على أساس أسلمة المجتمع على مستوى التدين، وليس على مستوى مكارم الأخلاق والأعمال.  ولعلنا نجد في ما بات يصطلح عليه في أدبيات الإسلام السياسي بمجالس الوعد والإرشاد، والخلوات وما إلى ذلك من أدبيات، لو وظفت في صالح الأعمال المدنية لما كان حالنا هو الحال. ولعلنا نتذكر أن طريق الوحدة، قد عبدت بسواعد رجال البلد ونسائه من خلال الأوراش المدنية، ولعلنا نتذكر جمعيات أوراش الشباب وما قامت به من جليل الأعمال.  فلما لا تعمل هذه التيارات والجماعات الإسلامية على تحويل سياسة الاعتكاف في المساجد والخلوات إلى سياسة مدنية تبتغي الإعمار والتشييد، تطبيقا لوصية نبيينا الكريم في كون الأعمال الصالحات بمثابة صدقات، وهو ما تتفوق فيه هذه الأعمال على العبادات؟

تستوجب سياسة الاعتكاف مني تحليلا وتأويلا يبتغي الصلاح، مثلما يبتغي تطهير التدين من كرنفالية الطقوس بما تقتضيه من غلو وإسراف ومبالغة في العبادات، لطالما كانت الصالحات أفضل أجراً وأنبل رفعة عند الله من الحسنات، فالعبادات تستوجب الحسنات وتحصلها.  أما العمل الذي يستفيد منه الناس فيستحصل الصالحات ويزكيها. ومن هنا تتأسس أهمية العمل وقيمته المحورية في الإسلام المحمدي ترجمة لما ورد في القران الكريم الذي يمنح الأفضلية التراتبية للعمل مقارنة بالعبادات، وإذا كانت العبادات من الضروريات التعبدية، لكن دون إسراف أو مبالغة ورهبانية، فما جعل الله علينا في الدين من حرج، خاصة إذا تعلق الأمر ببدع، حتى وإن كانت حسنة، فلا يجب أن تتحول إلى مبالغات كبيرة، فإن الله يجزي الثواب على صدق الأعمال ونبل الطوايا، وليس على عدد الركعات، ولعلنا نجد في تعليق النبي صلى الله عليه وسلم على رجل كان يجده دوما في المسجد، فأسال عمن يعوله، وهو دائم الاعتكاف، فحين قيل للنبي بأن أخاه هومن يعوله، قال (ص): إن أخاه أعبد منه.

تأسيساً على ما سبق،  يتحول العمل الصالح مما يستفيد منه العباد إلى ملازم للإيمان، وأحد أسسه. لذلك، فالله حين يخاطب المؤمنون يربطهم دوما بأعمال الصالحات. يقول تعالى: 

الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ.(الرعد 29)  
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴿البقرة 25﴾ 
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ﴿البقرة82﴾ 
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ﴿آل عمران57﴾ 
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ ﴿النساء 57﴾

إن الدين الحق، هو دين العمل، هو دين الأخلاق، لقد بتنا في وضع بئيس، إذ كلمنا توغلنا في التدين شكلا، وأهدرنا مضمونه، كلما أصبحت حياتنا خلواً من كل صالحات، بما هي أعمال في المجتمع ومن أجله، وتأسيس للحضارة والتقدم والصلاح. وإذا كنا في وضع تنموي أقل ما يقال عليه أنه كارثي، فنحن في حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى لتحويل الاعتكاف في المساجد والخلوات إلى اعتكاف على الأعمال المدنية من أوراش للتنظيف والتشييد والبناء، بالتفكير في الصيغ المؤسساتية الممكنة، وتحويل عجزنا التاريخي إلى تفوق لن يتحقق بالاعتكاف في المساجد والدعاء. وهذا لا يعني البتة أن نفصل العبادات عن الأعمال والمعاملات، كما قد يحور من في عقولهم وأفئدة سوء، قولنا هذا خدمة لبؤس رؤيتهم للدين الحق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثلاثة − 1 =

زر الذهاب إلى الأعلى