الموارد الاقتصادية للثقافة: المقاولات الثقافية كرافعة للاقتصاد الوطني (3/3)
د. مراد الريفي العلمي
لقد اتسم عرضنا لشبكة تفريعات الموارد الاقتصادية للمجال الثقافي بالاختصار والتركيز سواء تعلق الأمر بالصناعات الإبداعية أو بالسياحة الثقافية وهما يشكلان معا ميدانا فسيحا للفرص الاستثمارية، أضحى يحتل دون جدال مكانة مرموقة في الخطط الاقتصادية لحكومات الدول المتقدمة، بل الحصان المربح في حلبة السباق المحموم لاستكشاف الموارد المتجددة والمستدامة لكسب رهان رفع معدل التنمية المصاب بخلل بنيوي بَيِّنٍ طوال العقد الأخير. فحسبنا التذكير بواقع مداخيل الصناعات الثقافية بفرنسا مثلا التي بلغت زهاء 57،8 مليار أورو سنة 2015 أي ما يفوق مداخيل صناعة السيارات المزدهرة، وهو ما ضخ مليون وثلاثمائة ألف منصب عمل قار، مباشر وغير مباشر في سوق الشغل.
وهي مداخيل مالية ومناصب شغل موزعة على حقل صناعات ومهن ثقافية يتضح سنة بعد أخرى، مدى تفرعها وقدرتها على خلق حاجيات جديدة لا يبدو أنها منتهية في الأمد المنظور. فالموسيقى والسينما والنشر والطباعة والتلفزيون والإذاعة والفنون البصرية والاشهار والتواصل والعروض الحية وصناعة الترفيه وتطبيقات ألعاب الفيديو…إلخ هي منظومة متكاملة من الصناعات، يتمخض عنها طيف عريض من المهن التكميلية الدائمة التطور، وهو ما يجعل لائحة الصناعات الثقافة عند خبراء الاقتصاد تعج بموارد واعدة تجعل منها أحد أهم الرافعات الاقتصادية التي تعول عليها الطفرة الرقمية لتوظيف خوارزمياتها.
ولعل الحديث عن الموارد الواعدة للاقتصاد الثقافي، لا يستقيم دون التوقف عند المقاولة الثقافية باعتبارها قاطرة المهن والصناعات الثقافية، ويقصد بها تلك المقاولة التي يكون الجانب الأهم في خدماتها أو منتوجها له حمولة ثقافية غالبة. إذ اعتبرت اليونسكو هذه المقاولة ركيزة أساسية للاقتصاد المحلي المجالي، كما جعلت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إسيسكو)، من موضوع "المقاولات الثقافية بالدول الأعضاء"، الوثيقة الرئيسية للمؤتمر الإسلامي السابع لوزراء الثقافة، واعتبر المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بالمملكة المغربية، المقاولة الثقافية، محددا رئيسيا لاقتصاديات الثقافة. فإذا كانت المهن التراثية المرتبطة بالعمارة والتعمير والأثاث واللباس والزينة والطبخ والفروسية …إلخ، ضاربة في التاريخ وامتدت في المدن العتيقة في إطار ما يسمى «لحناطي" من نجارين وصفارين ودباغين وعطارين والقائمة طويلة، كانت لها نظمها وحِسْبَتُهَا ونوازل تدبيرها، فإن مجال المقاولة الثقافية اليوم، أصبح يغطي شبكة كبيرة وممتدة من الأنشطة بالنظر لمفهوم الثقافة المعاصر التي أضحى يجمع في دفة واحدة المعنى الأنثروبولوجي والمعرفي والإبداعي للإنتاج الثقافي. ولقد فرض هذا التنوع والامتداد في دروب النشاط الاقتصادي، أهمية التمييز بين المقاولة التجارية والمقاولة الثقافية، إذ من المفترض أن تتوفر شروط معينة وخصائص محددة في المقاولة حتى تستحق صفة الثقافية. ففضلا عن كون نشاطها يتمحور حول الفنان والمبدع والصانع والمهندس الثقافي، فإن الهدف الذي يميز المنتوج الثقافي، يجب أن يكون في المحصلة الأخيرة ثقافيا تثقيفيا. فهل يمكن اعتبار شركات صناعة البورنوغرافيا وألعاب القمار التي أصبحت تحتل أولى المراتب من حيث المداخيل، مقاولات ثقافية؟ وهل نعتبر وكالات الإنتاج التي تقدم مواد إشهارية تحط من صورة المرأة مقاولات ثقافية؟ وهل نعتبر الأفلام والبرامج التي تنشر خطاب الكراهية والعنصرية إنتاجا ثقافيا؟
فإذا كانت المقاولات الثقافية تهم قطاعات الثقافة بمختلف تلويناتها ومنها الفنون الجميلة، والمسرح، والموسيقى، والأوبرا، والرسم، والخط، والزخرفة، والتراث الثقافي، ومقاولات الصناعة الثقافية من اتصال ونشر وتسجيل وتصوير وعرض، ومقاولات السياحة الثقافية وغيرها من المقاولات الثقافية ذات الارتباط بالشأن الثقافي، فإن الإنتاج الثقافي يجب أن يكون صنوا لإنتاج الأنظمة القيمية والرمزية الصائنة للهوية، وهو ما يعني عدم السقوط في شراك تبضيع الثقافة وانصياعها لقيم السوق المُعَوْلِم والمُعَوْلَم. ويحيلنا الحذر من الآلة الأمريكية الكاسرة المبضعة للإنتاج الثقافي في إطار ما ينعت ب commoditisation of culture، إلى الصراع القوي التي تزعمته كل من كندا وفرنسا إبان مفاوضات الݣات في جولاتها العديدة، والتي انتهت بانتصار مفهوم الاستثناء الثقافي والذي كان بالأساس تأصيلا قانونيا يحمي المقاولة الثقافية من مدحاة التجارة الدولية.
إضافة إلى هذا الشرط الأساسي الذي يربط الإنتاج الثقافي بمنظومة قيمية معينة، فإن مجال الإبداع والصناعة الثقافية الذي تشتغل فيه المقاولة الثقافية، يتميز غالبا في الدول الناجحة فيه ومنها كوريا الجنوبية، بقوة منظومته المحلية خصوصا فيما يتعلق بشبكة تمويلاته المحلية، وبكونه لا يرتبط بالضرورة بدراسة دقيقة للسوق الثقافي المحلي، وبصعوبة الحصول على التمويل المسهل لانطلاق المشاريع، وباستمرار نعت السوق الثقافي بالسوق المخاطر، وبارتباطه أساسا بمجال جغرافي محدد، باستثناء الصناعات الثقافية الكبرى المرتبطة بالميديا والعرض. أما المقاولة الثقافية فتتميز بكونها تشتغل على حد سواء على المبادرة الحرة والصالح العام، وبمرونة تسييرها، إذ يمكن أن تشكل من ثلاث أشخاص، وبتسييرها من طرف شخص واحد، وبتعدد كفاءات وتدخلات المشتغلين بها. لهذه الأسباب، يبرز الاستثمار الثقافي كأحد أهم المرتكزات الاقتصادية لنموذج الجهوية الموسعة، وكركيزة أساسية غائبة للأسف، عن النموذج المغربي للتنمية (سنعود للموضوع بتفصيل).
فالمقاولة الثقافية من شأنها أن تتحول محليا إلى محرك للمبادرات الإبداعية الخلاقة وإلى استقطاب الكفاءات خصوصا منها الشبابية التي تتوفر على مهارات كثيرة لا تجد مجالا لتصريفها وتحويلها إلى منتوج قابل للترويج، كما أن تَجَمُّعَهَا في إطار قطب للمقاولة الثقافية، يمكن من تعزيز بناء الجاذبية السياحية والاستثمارية للمجال، ويدفع نحو تحريك دورة الحركة الاقتصادية لمقاولات أخرى ذات صلة (الفنادق، النقل، الإطعام…)، ويفرض إصلاح وتطوير البنيات التحتية للمجال. وتبقى أهم ميزة لشبكة المقاولات الثقافية على صعيد المجال، هي إمكانية خلقها لسيرورة تعاونية تكاملية بين حلقات المهن الثقافية داخل المجال الترابي، مما يقوي صورته ومضمون تسويقه بالنظر إلى إبرازها لخصائصه الثقافية والاجتماعية والديموغرافية.
إن واقع المقاولة الثقافية بالمغرب ما زال ينتظره الكثير. ففضلا عن كونها ما زالت في الغالب متوقفة على الدعم العمومي وغير قادرة على الإسهام الوازن في الاقتصاد الوطني، فهي لم تغط إلا جزءا بسيطا من طيف المهن والصناعات الثقافية، ولم تبوؤها السياسات العمومية المتعاقبة بعد، مرتبة البؤر الاستثمارية الواعدة، ولا أدل على ذلك من غياب إحصاء دقيق للمقاولات الثقافية على الصعيد الوطني لدى كل المعنيين المباشرين، ومنهم الاتحاد العام لمقاولات المغرب، والمندوبية السامية للتخطيط، ووزارة المالية والاقتصاد، ووزارة الثقافة. ويدعو هذا الواقع إلى العمل على اتخاذ إجراءات مهمة لتدارك الأمر واستثمار هذا المورد الاقتصادي الهام خير استثمار، ومنها تكريس صفة خدمة الصالح العام الذي تنشده المقاولات الثقافية وتعزيز التعاون بين متعهدي المقاولات الثقافية والفاعلين العموميين والمنتخبين والمدنيين والساكنة، وفتح قنوات تمويل المشاريع الثقافية بشروط تفضيلية ومرنة تواكب المراحل الجنينية للمقاولة الثقافية. كما تطرح إشكالية تسويق المنتوج الثقافي وطنيا ودوليا إكراهات كثيرة تحد من الفرص الاستثمارية الكبرى التي تتيحها السوق الثقافية العالمية. فرغم تضمن حصيلة برنامج عمل وزارة الثقافة في الفترة (2012-2016) مبادرة إحداث مكتب لتصدير الموسيقى، والتي تمت في ضبابية تامة، لا نجد أي أثر يذكر لهذه المبادرة على أرض الواقع، وما زالت الكثير من المقاولات الثقافية تحتاج إلى تنظيم ولوجها إلى السوق الإفريقية أو العربية أو الدولية.
إن سلسلة الإجراءات التي يمكن اتخادها والمرتبطة بالتكوين وتعزيز القدرات، والتمويل والدعم العمومي، وتشجيع الابتكار واستثمار الموارد الرقمية والإمكانيات التكنولوجية، وتشجيع البحث العلمي الثقافي، وخلق أقطاب ومحاضن جهوية لتشجيع تشبيك المقاولات الثقافية ودعم تكاملها، يفرض خلق مرصد وطني للاستثمار الثقافي ودعم المقاولات الثقافية، توكل إليه مهام تعزيز حضور وإنتاج المقاولة الثقافية جهويا، وطنيا ودوليا، وهو المرصد الذي من شأنه أن ينهي التصور السائد عن الثقافة باعتبارها وسيلة للترفيه فقط، عوض اعتبارها أهم وسيلة لبناء الرأسمال البشري والمحافظة على رصيده الحضاري المادي وغير المادي، وإغناء حركية الاقتصاد الوطني.