الدين والحياة

دور الأمهات في اكتشاف مواهب الأبناء

اكتشاف النبوغ والإبداع في حياة الأبناء اليوم يعتبر مهمة صعبة وعملية معقدة، تحتاج إلى جهد كبير لإظهارها وإبرازها، وهذه المهمة تحتاج لمتابعة مستمرة للأبناء؛ لمعرفة جوانب التميز، والاطلاع على صور الإبداع لديهم، وليس هناك أحد ألصق بالأبناء، وأكثر مخالطة لهم وجلوسًا معهم مثل الأم؛ فهي المسؤولة عن شؤون البيت من الداخل، وتربية الأبناء وترتيب المنزل، وحفظ الاستقرار فيه، وتهيئته بما يصلحه، ودور الأب هو في خارج المنزل؛ لجلب الرزق والعمل من أجل توفير الحياة الكريمة للأسرة، ولما كانت الأم أكثر جلوسًا واحتكاكًا بالأبناء من الأب، كان الدور عليها كبيرًا في معرفة اهتمامات الأبناء الجسدية والنفسية، ومدى تطورهم العقلي والفكري، وليس معناه أبدًا تخلي الأب عن دوره في التربية، ولكن بحكم الجلوس الطويل للأم وكثرة ملازمتها للأبناء، يكون الدور عليها أكبر، والمهمة الملقاة على عاتقها أعظم؛ وكما قيل:

فالأم مدرسة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ؛ فهي مربية ومعلمة، وطبيبة ومشرفة، ومراقبة وناصحة، فكثير من العلماء والمبدعين الذين يُذكرون في التاريخ، وسيرهم تدرس في المدارس والجامعات – نبغوا عندما وجدوا الأم الصالحة التي هيأت لهم سبل الإبداع، وشجعتهم على النبوغ والاختراع، حتى إن إحداهن كانت تقول لولدها: "اطلب العلم، وأنا أكفيك بمغزلي هذا"، ومن كثرة هؤلاء العلماء الذين كان الفضل في علمهم وشهرتهم لأمهاتهم، جاءت تلك المقولة التي يرددها الكثيرون: "وراء كل رجل عظيم امرأة"؛ فالمرأة إذا صلحت صلح بصلاحها خلق كثير، وإذا فسدت حُرم المجتمع من خير كبير.

ولما كانت كذلك، كان لزامًا أن يحسن الأب اختيار الزوجة الصالحة، ويحرص على الارتباط بالمرأة ذات الدين المستقيم والأخلاق الفاضلة، حتى تكسب الأبناء مما تكون عليه من الدين والخلق، فها هم ثلاثة من العلماء الكبار: الإمام سفيان الثوري، والإمام الشافعي، والإمام أحمد الذين ذاع صيتهم، وكثُر أتباعهم، وبلغوا من الشهرة كما يقال: "علم فوقه نار"، ووضع الله لهم القبول في الأرض والمحبة بين الخلق، هؤلاء العلماء يشتركون في شيء واحد، وهو أنهم جميعًا نشؤوا يتامى دون أب، والذي قام على رعايتهم وتربيتهم هن أمهاتهم، وكيف أن الواحدة منهن ضحت بالغالي والنفيس من أجل أن يطلب ولدها العلم، وأن ينافس الكبار من العلماء، فكنَّ يتحملن المشاق من أجل تحقيق ذلك الهدف.

وهنا ينبغي للأم أن تتوافر فيها المهارات التي من خلالها تكتشف الموهبة، وتميز جوانب الذكاء في أبنائها، وتوفر البيئة المناسبة التي تساعد على نبوغ الأبناء؛ فالطفل الموهوب هو عبارة عن طفل توفرت له بيئة، ساهمت في تطوير ما لديه من قدرات عقلية ومهارات بدنية، وخصوصًا في مراحل حياته الأولى؛ فهي سنوات البناء والنمو العقلي والبدني للطفل، وفيها تتكون مهاراته العقلية التي تكون النواة الأولى للإبداع والنبوغ، وهذه المهارات كثيرة أجملتها في أربع مهارات أساسية، لا ينبغي للأم أن تكون في غفلة عنها أبدًا، وليس حصرها في هذه فقط؛ وهي:

1- أن تتقن فن الإنصات للأبناء: فالاستماع للأبناء هو أول محطات التواصل وأهم وسيلة للتفاهم، فالآباء الجيدون هم من يفتحون قلوبهم وآذانهم لسماع أبنائهم، والتعرف على ما يحملون من هموم، أو ما يواجههم من مشاكل في الحياة، والاستماع إلى الأبناء يرسخ فيهم حب الآباء، ويشجهم للبَوْحِ بكل ما يخطر في أذهانهم، وإغلاق هذا الباب يدفع الأبناء للبحث عن من يهتم بهم، فيسمعون لمن يتكلمون خارج المنزل، وهنا يكون الخطر ويبدأ الانحراف.

2- التشجيع الدائم والتحفيز المستمر: وهو أحد الأساليب الهامة في دفع الأطفال إلى الإبداع، وإظهار مهاراتهم؛ فالتحفيز المعنوي أو المادي له أثر كبير في نفس الأطفال؛ حيث يجعله يُظهر المزيد من السلوك الجيد المرغوب، ويشعل شمعة الإنجاز لديهم، ويُذكي روح المنافسة فيما بينهم، وقد جاءت كثير من الأحاديث التي تدل على أهمية التحفيز والتشجيع ولو بكلمة؛ فقال عليه الصلاة والسلام: ((ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له حتى ترَوْا أنكم قد كافأتموه)).

فقد بيَّن عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث المكافأة لمن فعل معروفًا، أن يُشكر عليه وأن يُشجع على فعله بأي شيء مادي، فإن لم يجد، فلا يبخل بالكلمة الطيبة والعبارة المحفزة المشجعة.

3- المراقبة الدائمة: من طرق اكتشاف المواهب وإبراز النتائج الملاحظةُ الدقيقة لكل حركات الأبناء، وردة أفعالهم فيما يدور بينهم، أو يواجهونه في حياتهم، والمراقبة هنا هي التي يقصد منها الاطلاع على الاهتمامات التي يحبونها، والأنشطة التي يمارسونها؛ لمعرفة ميولهم والغاية التي يريدون الوصول إليها، وليكن الهدف من هذه المراقبة هو إعداد خطة عملية تتوافق مع اهتمام الأبناء، وتلبي احتياجاتهم ورغباتهم، وتدعم ميولهم وتعززها، وهكذا نكون قد وفرنا بيئة مناسبة للأبناء، تمكنهم من الانطلاق والمضي في ممارسة هوايتهم ورغباتهم.

4- فن الحوار والتحدث اللفظي بين الأم والأبناء: من أهم الوسائل التي تكتشف فيها الأم مواهب الطفل هي النقاش الدائم معه والحوار المستمر، وتوجيه الأسئلة المناسبة التي يراد منها الاطلاع على مدى اهتمام الطفل، والكشف عن بعض جوانب شخصيته؛ فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رأى ربيعة بن كعب الأسلمي قال له:((سل))، فقال: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: ((أو غير ذلك؟)) قلت: هو ذلك، ثم وجهه إلى الطريق الذي يوصله إلى تحقيق هدفه، فقال له صلى الله عليه وسلم: ((فأعني على نفسك بكثرة السجود)).

انتهى الحوار بين ربيعة والرسول عليه الصلاة والسلام، فانظر كيف علمنا علو همته ونبل مقصوده بمجرد سؤال سأله النبي عليه الصلاة والسلام، فالطفل قد يكون لديه حواجز تمنعه من أن يقول ما يرغب به أو يراه، فإذا كسر الآباء هذه الحواجز بينهم وبين الأبناء، كانت ثقة الأبناء بهم كبيرة، واستشاروهم في جميع شؤون حياتهم، فمشاركة الطفل رأيه في بعض الأمور التي تهم العائلة، أو إبداء رأيه فيما يدور حوله من أحداث – يعزز لديه الثقة بالنفس، ويشعره بأهميته في الأسرة، ويدفعه إلى التفكير والاطلاع والبحث.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

خمسة + 16 =

زر الذهاب إلى الأعلى