الدين والحياة

أسئلة فيلم “جوكر” وأجوبة نيتشه وابن عربي

منتصر حمادة

حتى لو لم يكن الإنسان المعاصر متتبعاً للمجال الفني، في شقه السينمائي بالتحديد، فإنه لا يمكن أن يصدر النظر عن أعمال سينمائية تخاطب الجمهور الكوني ولا تخاطب جمهوراً معيناً في مجال ثقافي دون سواه، ومن هنا بعض أسباب تنظيم مهرجانات سينمائية في العالم بأسره، من باب فتح المجال للتميز، موازاة مع مهرجانات موضوعاتية، متخصصة في تيمة معينة دون سواها.

فيلم "جوكر" من الأفلام المزعجة للإنسان الكوني المعاصر، أياً كانت مرجعيته الهوياتية، الدينية والعرقية والإيديولوجية، ولا يمكن أن يكون هذا الاحتفال العالمي به مجرد صدفة أو مؤامرة، وإنما اجتمعت عدة عوامل أفضت إلى التعامل مع الفيلم على أساس أنه أشبه بتحفة سينمائية، ونتوقع أن يكون لها ما بعدها، أقلها أن تُنظم ندوات وورشات حول العمل، أو أن تحتفي المجلات الفكرية بمضامين ورسائل الفيلم، وفي هذا السياق، نقرأ إحدى إشارات الغلاف الجديد لعدد شهر دجنبر "للمجلة الأدبية" ["ماغازين ليترير"] الفرنسية، والمخصص للتعريف المتجدد بشخصية ألبير كامو، حيث تضمن الغلاف بورتريهاً لكامو، مرفقاً بعدة شخصيات تحيل على ظاهرة "السترات الصفراء" في فرنسا التي مرت هذه الأيام الذكرى الأولى لاندلاع الظاهرة، مع صورة لبطل فيلم "جوكر".

لا نتحدث عن الجوانب الفنية والإبداعية في الفيلم، والتي يصعب حصرها، أقلها أن بطل الفيلم، جواكيم فينيكس، اضطر إلى إجراء حمية قاسية وصلت إلى فقدان 24 كيلوغراماً من وزنه، قصد تجسيد هذا الدور، وجوانب أخرى، يفقه فيها أكثر أهل الاختصاص، بقدر ما يهمنا التوقف عند بعض رسائل الفيلم.

مؤكد أن هناك عدة مؤاخذات على الفيلم، وهذا أمر طبيعي، لأنه لا يوجد أي فيلم بالأمس أو اليوم يحظى بالإشادة الكلية أو النقد الكلي، ولو أن هذه المؤاخذات بقيت هامشية مقارنة مع ما جرى على أرض الواقع، ونقصد هذا النجاح أو الاحتفال العالمي بالفيلم.

ولكن، هناك مجموعة من النقاط التي تحسب لهذا الفيلم، ونذكر منها نقطة هامة، عنوانها الانتصار للسؤال: هذا فيلم لا يطرح أجوبة، بل نزعم أن الفيلم لا يدعي أساساً أنه معني بطرح أجوبة، بقدر ما يطرح أسئلة مزعجة، وتتطلب التأمل.

هذا فيلم مستفز لأهل النظر والتفكر، أو قل للعقلاء والحكماء في العالم بأسره، ونتحدث عن استفزاز إيجابي، ومجرد انخراطه في تمرير عدة أسئلة مزعجة للإنسان المعاصر، يُعتبراً مكسباً له، خاصة أن عملية تمرير الأسئلة جرت عبر البوابة الفنية، ولم تصدر في مقام جامعي أو في مؤتمر أو ندوة أو حتى في كتاب، أو شيء من هذا القبيل، وحتى لو جاءت في مقام معرفي، عبر منصة مؤتمر أو إصدار بحثي تأملي مثلاً، وهذا أمر قائم فعلاً كما هو معلوم، في العالم بأسره، فإن الأمر يبقى محصوراً في المجال الإبداعي الخاص بذلك المقام، من قبيل مجال الأبحاث والدراسات وما إلى ذلك، وهذا مجال محدود الأفق التفاعلي، خاصة في ما يُصطلح عليه بلدان العالم الثالث، أما أن يأتي في صيغة عمل سينمائي، يحظى بأرقام قياسية في المتابعة والمشاهدة والمناقشة، فهذا مكسب نوعي جدير بالتأمل.

في المشهد الختامي لفيلم "جوكر"، والذي تميز بحضور روبير دي نيرو في الحوار الذي جمعه ببطل الفيلم، نعاين ملخصاً لبعض رسائل العمل، وبالتحديد ما جاء في مواقف بطله، حول ظروفه الإنسانية وحالته الاجتماعية، ومفارقات الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ومؤشر النفاق المجتمعي، واللامبالاة اتجاه معاناة "المعذبين في الأرض" بتعبير الراحل فرانز فانون، وقلاقل أخرى. أما اعتراضات دي نيرو في الحوار ذاته، فإنها تلخص اعتراضات عقلنا الجمعي، هناك وهنا أيضاً، ومعها اعتراضات سلطة القانون.

مشاركة دي نيرو في الفيلم، بالنسبة لمتتبعي المواقف السياسية للرجل، مسألة هامة، وتغذي القراءات التي ربطت بين رسائل الفيلم والرأسمالية المتوحشة والنيوليبرالية، على اعتبار أن لدي نيرو أشرطة فيديو نقدية وصريحة ضد الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب.

الحالة النفسية للجوكر حالة مرضية، وكان ممكناً أن تكون حالة سوية في سيناريو الفيلم، لولا أن هذا الخيار المعتد في العمل، كان فرصة لكي يتم الربط بين حالة البطل وحالة الإنسان المعاصر.

لنتذكر أن نسبة المرضى من منظور علم النفس هنا في المغرب مثلاً تتراوح بين 40 و45 في المائة، رغم أن الأمر يتعلق بمجتمع يعج بتراث صوفي، وبسبب هذه الجزئية بالذات، نرى أن هذا العمل هدية إلى أهل علم النفس وعلم التصوف، بما يتطلب الإحالة على واقعة عايناها مؤخراً، وتتعلق بحضور أمسية سماع في مسرح محمد الخامس، بالرباط، نظمت مساء الاثنين 25 نونبر الماضي، في لقاء تميز بنفحات لمجموعة الذاكرين برئاسة محمد التهامي الحراق، وكانت تلك النفحات فرصة لكي نظفر ببعض الأجوبة على بعض أسئلة طرحها فيلم "جوكر".

نتحدث عن أجوبة روحانية أساساً، يصعب على المادية الصلبة أن تتفطن إليها إذا كانت مصرة على تغييب الغيب، رغم أنه من المستحيل عملياً تغييب الغيب، ولكن جهل الإنسان بنفسه فالأحرى جهله بالمحيط القريب والبعيد والمحيط غير المرئي، يحول أن يتفطن إلى هذه الأمور.

من بين هذه الأجوبة، أن الإنسان المعاصر الذي يحلم بعالم شبه مثالي، مُخير بين تبني عدة مشاريع، نذكر منها مشروعاً يهم المجال الثقافي والحضاري الغربي (الأوربي على الخصوص)، ونذكر في المقابل مشروعاً يهمنا مجالنا الثقافي: يهم الأمل مقام "الإنسان الأعلى" أو "الإنسان الفائق" بتعبير نيتشه (والترجمة هنا لعلي حرب)، أو نموذج "الإنسان الكامل" بتعبير ابن عربي، أو قل بتعبير أهل الإشارات كما نقرأ في بعض الأدبيات الصوفية.

ومعلوم أن تطبيقات أطروحة "الإنسان الفائق" أفضت إلى كوارث إنسانية يصعب حصرها، ويكفي استحضار ما صدر من أعمال نقدية عن "مدرسة فرانكفورت" الألمانية، في إطار تقويم تلك الاعوجاجات، بينما تطبيقات "الإنسان الكامل"، مجرد اجتهادات، تروم الاقتداء بالمقام النبوي الشريف، لأن "الإنسان الكامل" أساساً في تلك الأدبيات، يُقصد به المصطفى عليه الصلاة والسلام، والذي جاء أساساً رحمة للعالمين، ومن هنا الرحمة أو التعاطف النزعة الإنسانية التي يبحث عنها جواكيم فينيكس في فيلم "جوكر"، وهذا غيض من فيض أسئلة الفيلم المزعجة.

ما أكثر الكنوز التي يتوفر عليها المسلمون اليوم، ولكن هناك ما يُشبه حجب أو حواجز مادية ومرئية ونفسية، دون الحديث عن التردي الذي أصاب حقول السياسة والفكر والدين والاجتماع وغيرها، تشكل حجاباً حقيقياً يحول دون الانتباه إلى تلك الكنوز، والقلة القليلة التي تشتغل على التعريف بهذه الكنوز، لا زالت أقلية وتكابد هنا وهناك، من أجل التعريف بهذه الكنوز.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

5 + 17 =

زر الذهاب إلى الأعلى