الموارد الاقتصادية للثقافة: الاقتصاد الإبداعي (1-3)
د. مراد الريفي علمي
نشرت وزارة المالية والاقتصاد المغربية، بالتعاون مع مديرية الدراسات الاقتصادية والتوقعات المالية التابعة لها، منذ مطلع أبريل 2016، تقريرا بعنوان "الاقتصاد الإبداعي: الفرص المالية والاقتصادية." وبالرغم مما تضمنه التقرير من معطيات غاية في الأهمية، لم يجد أية متابعة تستحق الذكر، بل سرعان ما أخذ طريق مئات التقارير والدراسات التي تكلف ميزانية الدولة مبالغ مهمة، لتستقر في دواليب ردهات الأرشيف، علما أن الهدف من إعدادها هو تقديم الخلاصات التركيبية التي تمكن من تقويم التصور العام لسياسة عمومية قطاعية أو عرضانية. وعلى الرغم مما قد يآخذ على منهجية التقرير الذي لم يشمل كل مكونات الاقتصاد الابداعي المتعارف عليها في جميع الدول، وفق التعريف الذي قُرّر في مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية والتجارة، فقد أوردت الدراسة مثلا، أن الصناعات الإبداعية توظف قوةً عاملة دائمة لما يقارب 40,000 شخص، وأن المؤسسات الصناعية المغربية العاملة في الميادين التي تسهم في الاقتصاد الإبداعي، قد حقّقت حجم مبيعات بقيمة 17,2 مليار درهم، وقد نمت عائدات الصناعة الإبداعية بمعدّل 4,3% منذ عام 2000. وقد كشف التقرير أيضاً أن صادرات السّلع الإبداعية المغربية قد حقّقت ربحاً بلغ 250 مليون دولار أمريكي في عام 2012، مقابل 378,5 مليون دولار أمريكي في عام 2011. وقد خلصت الدراسة إلى أن هذا المكون الكبير من الاقتصاد الوطني، يلعب دورا بالغ الأهمية في تعزيز النمو، وإيجاد فرص العمل، والدمج الإقليمي، وتبادل الخدمات والسلع.
وبالنظر إلى مستوى الاقتصاد الوطني، فإن هذه العائدات قد تبدو مهمة لكنها في الواقع لا تشكل إلا النزر القليل مما يشكله الخزان الهائل للاقتصاد الإبداعي والذي يمثل بحق، الرافعة الحقيقية لاقتصادنا الوطني القمينة بتحويله إلى اقتصاد فاعل مستدام الحيوية والدينامية. فيكفي أن نذكر في هذا المجال بوضعية الاقتصاد الإبداعي بفرنسا، وإن كانت هي الحلقة الأضعف مقارنة بألمانيا وانجلترا وحتى بإيطاليا. فقد بين التقرير الصادر عن المفتشية العامة للشؤون الثقافية بوزارة الثقافة والاتصال بفرنسا، الصادر سنة 2013 في موضوع "مساهمة الثقافة في الاقتصاد الفرنسي"، أن الأنشطة الثقافية والإبداعية تساهم بنسبة 3،2% في الناتج الداخلي الخام، وتخلق 670000 منصب شغل مباشر. ولعل واقع الاقتصاد الإبداعي بالعديد من دول العالم، يدعونا بالمغرب إلى استشراف الآفاق الواعدة لهذا الحقل الذي لم يبرز كمجال اقتصادي رحب إلا خلال العشرين سنة الأخيرة. فقد اعترفت الأمم المتحدة في تقريرها بشأن الاقتصاد الإبداعي المعنون "توسيع نطاق مسارات التنمية المحلية"، الذي صدر عن المؤتمر العام لليونسكو سنة 2013، بالثقافة كقوة دافعة ومحركة حيث حرصت إيرينا بوكوفا، المديرة العامة للمنظمة الأممية على التذكير: " إذا كان الاقتصاد الإبداعي يجلب الوظائف فإنه يسهم كذلك في الرخاء الشامل للمجتمعات، وفي تعزيز احترام الأفراد ذواتهم وفي تحسين نوعية حياتهم، ومن تم في تحقيق التنمية الشاملة والمستديمة. وفي وقت يقوم فيه العالم بوضع خطة تنمية شاملة جديدة لمرحلة ما بعد عام 2015، علينا أن نقر بأهمية القطاعين الثقافي والإبداعي وقوتهما بوصفهما محركين للتنمية."
إن مفهوم الاقتصاد الإبداعي والثقافي برز كواجهة بين الثقافة والاقتصاد والتكنولوجيا، وتشمل مكوناته مجالات متنوعة قاسمها المشترك إعمال الإبداع كرأسمال فكري يمثل صميم القيمة المضافة للمنتوج. ويمكن حصر أهم مكونات هذا الاقتصاد في: الحرف اليدوية، الترفيه التفاعلي، الفنون الأدائية، المهرجانات، التحف الفنية النادرة، المعارض، الإعلان، التصميم، الهندسة المعمارية، تصميم الأزياء، صناعة الأفلام، الموسيقى، النشر، البرمجيات، التلفزيون والإذاعة، صناعة الألعاب. ففضلا عن الفرص والإمكانات الهائلة التي تتيحها هذه المجالات أمام تحريك عجلة الدورة الاقتصادية، فإن وتيرة تنامي هذه الموارد ستظل في اطراد مستمر بالنظر إلى العوامل الأساسية التالية:
لقد فتحت التكنولوجيا الرقمية إمكانيات إبداعية لا حصر لها، حيث مكنت من توفير الأدوات العملية الابتكارية المباشرة المساعدة خصوصا منها الويب آرت، على الرفع من القيمة الجمالية والاعتبارية للمنتج، كما فتحت فرصا لا متناهية أمام إضافة القيمة الثقافية لهذا المنتج من خلال الموسيقى والدراما والترفيه والفنون البصرية. والأهم من الأمرين، أن الانترنت أضحى معينا لا ينضب يمكن من الاطلاع على التجارب الإبداعية بمختلف تلويناتها وأخاديدها عبر أرجاء المعمور، مما أتاح فتح أبواب صناعة العمل الثقافي التي مازجت بين التقاليد العريقة للعمل الثقافي و مجموعة واسعة من الأنشطة الاقتصادية الحديثة (الصور المتحركة، التصميم، صناعة الأزياء، الإعلان والإشهار)، علما أن قطب رحى ثورة الاقتصاد الإبداعي، تكمن في ما أتاحته الوسائط الرقمية من قدرة على الانتشار والوصول إلى المستهدفين بفعالية كبيرة.
إن فئات عريضة من المواطنين تجد نشاطها خارج دائرة الهياكل الرسمية التقليدية للاقتصاد والنشاط التجاري، وهم يجدون في إبداعاتهم وسيلة للتحول من المستهلك فقط إلى المنتج كذلك، وخصوصا للتعبير الفردي عن تصور معين للإنتاج، مما يقوي إمكانيات خلق القيمة المضافة والمشاركة مع طيف اجتماعي عريض يحمل نفس الاهتمامات. وهنا مربط الفرس، إذ يذيب الاقتصاد الثقافي الإبداعي، الحواجز بين الهياكل التقليدية للاقتصاد والأطر الجديدة التي تجمع بين الاحتراف والهواية، فقد برزعدد متصاعد من الشباب المغربي مثلا، يسعى إلى تطوير صَنْعَتِهِ الإبداعية الهاوية إلى مرتبة الاحتراف، وتشكل مسيرة الترقي من مرتبة إبداعية إلى أخرى، صميم دينامية الاقتصاد.
حسب الأمين العام لمؤتمر الأمم المتحدة بشأن التجارة والتنمية (UNCTAD)، فإن سر الإيقاع المتسارع للاقتصاد الإبداعي بالدول النامية، يكمن في كونه لا يتطلب استثمارات ضخمة كون المقاولات الثقافية قد تشغل ثلاثة أشخاص فما فوق، وفي قدرته على تنويع الموارد الاقتصادية خصوصا بالمناطق الريفية.
لقد وقفت كل المخططات والتقارير والدراسات على أهمية خلق بيئة محفزة للاقتصاد الابداعي، وتعتبر حقوق الملكية الفكرية المرتبطة بالطبع والنشر وبراءات الاختراع والعلامات التجارية والتصاميم الإنشائية، الركيزة الأساسية لهذه البيئة التحفيزية، إذ لا يمكن تصور انطلاقة سليمة لوتيرة الانتاج الإبداعي أمام تفشي آفة القرصنة، وهدر الحقوق الفكرية والحقوق المجاورة المرتبطة بها. وإذا كان المناخ التشريعي هو الأرضية الصلبة التي تؤسس عليها هندسة الاقتصاد الإبداعي، فإن دعامات البيئة المعززة لهذا الاقتصاد معرفية، تمويلية، تسويقية، تكنولوجية. فلا مناص من تشجيع البحث العلمي وتشريع الأبواب أمام المعرفة من خلال إعمالها في الحياة العامة، بفتح قنوات تصريف المضامين الفكرية والعلمية فيما ينفع كل مفاصل الحياة الاجتماعية، إذ أن المحضن السليم لعنفوان الاقتصاد الإبداعي هو مجتمع المعرفة. ولا يمكن تصور مجتمع المعرفة دون نظام وطني للابتكار يتلقف كل مبادرة خلاقة ويرعى كل لمسة إبداعية تأتي بقيمة مضافة، ولنا في تجربة طايوان، سنغافورة وماليزيا ما يكفي من العبر في هذا الباب. كما أن آلاف المبادرات الإبداعية الفردية سرعان ما تجهض في بداياتها لنقص الموارد المالية الكافية لإنجاحها، مما يفرض سن سياسة وطنية لدعم وتمويل المقاولات الثقافية الإبداعية وتمتيعها بحزمة من الامتيازات التمويلية والجبائية. وهي الامتيازات التي لا يمكن بناءها بناء سليما خارج دائرة شراكة حقيقية بين القطاع العام والقطاع الخاص ودون مشاركة حقيقية وشجاعة للقطاع البنكي، ودون تحريك قوي ومؤطر للرأسمال المخاطر. لئلا نعيد نفس إخفاقات برامج سابقة من قبيل "فوكاريم" و"مقاولتي". ولنا أن نتصور ما يمكن لإحداث محاضن نوعية للإبداع incubateurs de création، أن يفتحه أمام ضمان فعالية سياسة الدعم الوطنية.
ومن جهة أخرى، فإن تعزيز القدرات التسويقية يبقى نقطة ضعف قطاعات صناعية وتجارية عريضة، مما يفرض تطوير تلك القدرات بالخروج من الأطر المتجاوزة واستثمار الوسائط الرقمية والتقنيات التسويقية المستجدة التي تمكن في ظرف قياسي من إيصال المنتوج إلى أكبر شريحة مستهدفة داخل وخارج الوطن. ومن شأن تكثيف الدورات التدريبية في هذا الباب أن يمكن من تجاوز هذا النقص على نطاق واسع، فقد حضرت شخصيا كيف تم إيصال منتوج إبداعي إلى مليوني مستهلك محتمل في 6 ساعات من خلال تقنية دقيقة بأحد أهم شبكات التواصل الاجتماعي. أما تعميم التغطية بوسائل الاتصال وبشبكة الأنترنت، فيعد أحد ركائز البيئة التحفيزية للاقتصاد الإبداعي خصوصا بالمناطق القروية. فقد لاحظنا ببلدنا، النهضة الكبرى التي عرفتها بعض الصناعات الإبداعية في إطار تعاونيات الاقتصاد الاجتماعي، ومنها صناعة الصياغة الفضية والديكور والأثاث المنزلي المزاوج بين المكون التقليدي واللمسة العصرية، وصناعة الخزف…إلخ، والتي مكنت من كسر عزلة العالم القروي وفتحت جسورا كثيرة للمساهمة في الاقتصاد الوطني.
وتبقى الحكامة التدبيرية أكبر نقص يعتري جهود بناء سليم لاقتصادنا الإبداعي. فكيف يمكن تصور إمكانية قياس دقيق لمساهمة الثقافة في الاقتصاد الوطني دون إحداث حساب فرعي compte satellite خاص بالثقافة بمديرية المحاسبة الوطنية، فلولا إحداث الحساب الخاص بقطاع السياحة لما كان بالإمكان قياس المساهمة الحقيقية لهذا القطاع في الاقتصاد الوطني. خارج نطاق هذا الحساب، تبقى كل المحاولات تقريبية لا تمكن من تتبع تفاصيل اقتصادنا الثقافي والابداعي.
تأسيسا على ما سلف، فإن الخطوة الأولى لصياغة مخطط عمل متكامل يهم الاقتصاد الابداعي ببلدنا، تبدأ بتحديد القطاعات المعنية بالمساهمة في اقتصادنا الإبداعي، وتشخيص وضعية قطاعات هذا الاقتصاد، وضبط الفرص الممكنة لتطوير هذه القطاعات وتنميتها، مع تنسيق إعداد استراتيجيات فرعية للقطاع العام والخاص تهم تطوير مكونات هذا الاقتصاد الإبداعي.