غير مصنف

الإِنْســانُ الآلَــةُ

صلاح بوسريف

من بين الأمور التي أثارتْنِي في أحد حوارات السيميائي والروائي الإيطالي الراحل، أمبرطو إيكو، قوله، مُتحدِّثاً عن التأثير السلبي للتلفزيون في المُتعلِّمِين، قياساً بعامَّة الناس: «في العمق، يُفْسِد التلفزيون المُتعلِّمِين ويُثقِّف الذين يعيشون حياةً مُعْدَمَة». فأيكو له موقف واضح من استعمال وسائل التواصُل الاجتماعية الحديثة، فهو يراها وسيلة لتسطيح العقل والفكر، وهي، مثل التلفزيون، وسائل إعلامية «صُنِعَت للحُشود» كما أن التلفزيون «أمر سوقي» وهو «مُخَدِّر كوني».

لا يصدر هذا المثقف الكوني الكبير عن موقف جاهل بدور الإعلام، ووسائل الاتصال الحديثة، أو هو جاهِلٌ بها يُبرِّر جَهْلَه بنقد هذه الوسائل، ومهاجمتها، فأيكو، هو قاريء جيِّد للصُّورة، ومُفَكِّك لأهوالها، وما تحتمله من رسائل، ومن أسرار، أو ما ترغب في خلقه من تأثير في المُشاهِد، فهو سيميائي، عارف بأسرار العلامات، وما تختزنه من أبعاد دلالية، ومن معان، ربما لا يُدْرِكُها المُشاهِد، بقدر ما يكون غارقاً في خدرها، وفي سكرها الذي تنطوي عليه، لِتُمَرِّر خطابها، أو ما ترغب في بلوغه من أهداف. إن أيكو أدْرَك ما يصنعه من هُم وراء التلفزيون، ووراء وسائل التواصل الحديثة، بالمُشاهِدين، وما يعملون على اختلاقه من أفكار سطحية، تتشابه في كل شيء، كَزَيٍّ عَسْكَرِيّ مُوحَّد. فكر يُخْضِع العقل لهيمنته، ويجعله، بالتالي، عقلا تابعاً، يقبل الجواب، أو يبحث عن الجواب، دون أن يُفَكِّر في السؤال، أو ما عليه طرْحُه من أسئلة.

الإنسان الآلة، الإنسان «الحَشْد»، أو القطيع. هذا ما تذهب إليه وسائل الإعلام، وما ترغب في أن تصل إليه. لكن الخطر كل الخطر، هو أن يُفْسِد التلفزيون المُتعلِّمِين، ويجعلهم أداة في يده، يُردِّدُون ما يُقال، دون التفكير فيه، أو قراءته، أو النظر فيه بوعي نقدي، وبنوع من المقارنة والتحليل، أو الذهاب إلى ما يَتْوِي بين السطور، أو ما خلف الصُّوَر والمشاهد والأخبار التي تنهال عليه كالمطر. فما يقوله التلفزيون، أو ما يُبَثُّ في الفايسبوك، باتَ مثل قرآنٍ مُنزَّل، أغلب الناس يتلقونه باعتباره حقيقة، وشيئاً لا يدخله باطل. فالتَّحْشِيد، أو السوقية، أصبحت هي ما يأخذ الناس ويشُدُّهُم، أو يغويهم، ويسلب منهم العقل والإرادة، ليصيروا بدون موقف، ولا رأي لهم، فَهُم يكتفون بقول ما قيل، وبتبني ما يَفِدُ عليهم، دون أن يأخذهم شَكٌّ في الأمر، أو تفكير في حقيقته.

فالخبر يبقى مُعلَّقاً بين الشك واليقين، ما لم نتأكَّد بما يمكن أن نقوم به من مقارنات، وبحث، وتَقَصٍّ، لا أن نسقط في خدر ما نسمعه، وما نراه. فالإعلام صناعة، وهو، في أغلبه يكون مُسَيَّساً، سواء أكان إعلام دولة، أو إعلام أفراد، فاللامُنْتَمِي، هُوَ مُنْتَمٍ بالضرورة، لما هو، أيضاً، يؤمن به من أفكار، وما يتَّخِذُه من مواقف، ولا يمكن أن يكون الإعلام مُحايداً، أو موجوداً بدون رؤية، وبدون موقف.

فأمبرطو أيكو، حين تحامل على وسائل الإعلام، وعلى التلفزيون أيضاً، فهو تحامل حتَّى على الصحافة التي رأى أنها صارت تابعة للتلفزيون. فالتلفزيون يخلق الحدث، والصحافة المكتوبة تُعلِّق عليه، وهذا فيه تأكيد على التَّخْدِير الشامل الذي يقوم به التلفزيون، باعتباره صانع أحداث، وخطابات، ورسائل، وصانع أفكار. وهذا هو أكبر خطر يراه أيكو، وهو ما نراه اليوم، خصوصاً حين يصبح التلفزيون وسيلة فُرْجَة، لا وسيلة تثقيف ومعرفة، ووسيلة تسطيح للفكر والعقل، لا وسيلة تربية وتثقيف، وربما يمكن اعتبار التلفزيون أداة للتربية على مجتمعات الإنسان المُسْتَلَب، والإنسان الذي لم يَعُد يرغب في التفكير، ولا في بذل جُهْد في الوصول إلى المعرفة، فلجأ إلى التلفزيون، وإلى وسائل التواصل الحديثة، لتنوب عنه في التفكير، وفي وضع الصور والأخبار في طريقه، بلا عناء ولا عياء.

أليس رأي هذا المثقف الكوني، بهذا المعنى، هو تعبير عن هَجْسِه بإفراغ الإعلام من الثقافة ومن الإنسان، أو استعماله، بالأحرى، لقتل الإنسان، ولتجميد العقل، أو أسره في غرفة مُعْتِمَة، لا تدخل إليها الشمس، ولا ثقب فيها، لأنها، في أصلها قبر، أو سرداب مُحْكَم الظُّلْمَة والغباء!؟

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

سبعة + 10 =

زر الذهاب إلى الأعلى