هزيمة نقابة الإسلاميين مؤشر على هزيمة مشروع
منتصر حمادة
إذا كانت لليسار في المغرب والمنطقة محطة فاصلة، كانت عنواناً على تراجع مشروعهم وفشله، والدخول في التالي إلى مرحلة ما بعد اليسار، كصيغة ملطفة للحديث عن أفول اليسار، فالأمر نفسه مع الإسلاميين، من سلفيين وإخوان و“جهاديين” وغيرهم، فلهم أيضاً محطة كانت عنوانهاً على تراجع مشروعهم وفشله، والدخول في التالي إلى مرحلة ما بعد الإسلاموية، والذي يُحسبُ للباحث الإيراني آصف بيات أن كان أحد الأوائل الذين نبهوا للظاهرة، في كتاب يحمل هذا العنوان، أي ما بعد الإسلاموية (2013) [مع الإشارة إلى أن الكتاب صدر بعد دراسة سابقة، على غرار ما جرى مع كتاب “صدام الحضارات“، الصادر في مجلة بداية، قبل انتقال إلى مقام صدوره في كتاب]، ويمكن إضافة أسماء أخرى، في المغرب وفرنسا، من قبيل فريد الأنصاري من خلال ثلاثية “البيان الدعوي” (2004) و“الأخطاء الستة” (2007) و“الفِطرية” (2009)، وأوليفيه روا من خلال كتابه “فشل الإسلام السياسي” (1992)، وكلها أعمال توقعت أفول المشروع، سواء صادرت من الداخل أو من الخارج، بمعنى صدرت عن أسماء كانت تنتمي إلى الإسلاموية أو عن أسماء تشتغل على الظاهرة من خارج التنظيم.
بالنسبة لليساريين، يتعلق الأمر بمحطة سقوط جدار برلين، في 9 نوفمبر 1989، والذي كان صدمة نفسية عميقة على جميع المرجعيات والإيديولوجيات اليسارية في العالم، بما في ذلك المرجعيات الإيديولوجية هنا في المغرب والمنطقة، بل كان أحد الأسباب المغذية للاحتفال الغربي بانتصار قيم الليبرالية والديمقراطية، بالصيغة التي جاءت في كتاب “نهاية التاريخ” لفرانسيس فوكوياما، [ولو إنه يُحسبُ لهذا الأخير أنه قام بمراجعات لاحقة لمفهوم “نهاية التاريخ“].
استغرق اليساريون المغاربة وقتاً كثيراً حتى يقتنعوا أنه ولت حقبة المرجعية اليسارية، وأن أي مشروع مجتمعي (سياسي، ثقافي، اقتصادي.. إلخ)، ينهل من مرجعية يسار ما قبل سقوط جدار برلين، مآله الانقراض أو الحضور الشكلي، الذي لا يُقدم ولا يؤخر في تفعيل الإصلاح، وهذا ما يُجسده، على سبيل المثال لا الحصر خطاب “حزب الطليعة” و“حزب النهج“، حيث أصبح حضورها أشبه بظواهر صوتية، وإن كانت أتباع هذه المرجعيات تعتقد خلاف ذلك، وإن كان أي متتبع لما يصدر عن بعض أعضاء “الطليعة” و“النهج“، يشعر بحسرة عن تأثير تزييف الوعي باسم المرجعية اليسارية، ذلك الذي ينهلون منه، بما في ذلك أسماء بحثية لديها شواهد جامعية.
يتكرر الأمر نفسه مع المرجعية الإسلامية الحركية، والنموذج هنا المرجعية الإخوانية، كما هو جلي في حالة مَجَرة حركة “التوحيد والإصلاح” وحزب “العدالة والتنمية“، حيث كانت أحداث يناير 2011، وبالتالي أحداث “الفوضى الخلاقة” [2011 ــ 2013]، أو “الربيع العربي” حسب الاصطلاح الأمريكي، حدثاً فاصلاً ستتضح آثاره الجلية على المشروع لاحقاً، بعد سنوات من ذلك، رغم انخراط أقلام المشروع، في المراكز البحثية والمنابر الإعلامية، المحلية والإقليمية، في الترويج لخطاب الفوز والانتصار، بل هناك من توهم قرب تأسيس “دولة الخلافة“، كما أعلن عن ذلك في مؤتمر القاهرة المؤرخ في 13 يونيو 2013، والذي كان مخصصاً لما سُمي “نصر الجهاد في سوريا“، وما أكثر المراهقين والشباب، ضحايا تزييف الوعي باسم الدين ــ والدين براء من هذا التوظيف ــ من الذين صدقوا هذه الشعارات والمزايدات، ولم ينتبهوا إلى أن العديد من القيادات الإسلامية الحركية المشاركة في المؤتمر، كانت مجرد أدوات وظيفية لدى “عقول دولة” في المنطقة، حيث تدار صراعات استراتيجية حقيقية، عناوينها السياسة والأمن والدين والاقتصاد والإعلام، وحتى الذكاء الاصطناعي.
هذه المقارنة أعلاه، أرضية لا بد منها، على ما نعتقد، بالنسبة للمتتبعين المغاربة الذين يرغبون في قراءة النتائج الأخيرة لإسلامي “التوحيد والإصلاح” و“العدالة والتنمية“، عندما حصد الذراع النقابي للمجرة، أي “الجامعة الوطنية لموظفي التعليم” هزيمة دالة في الانتخابات المهنية لممثلي موظفي التعليم في وزارة التربية الوطنية، ومعلوم أن الأمر يتعلق باستحقاقات تسبق الانتخابات التشريعية التي من المنتظر أن تنظم في شهر سبتمبر المقبل، حيث حلت النقابة الإسلامية الحركية في المركز السادس، بحصولها على 27 مقعداً فقط، بل إن الأمر وصل إلى أن النتائج وضعت نقابة المجرة المعنية جنباً إلى جنب مع النقابات الأقل تمثيلية والتي لا تحظى حتى بفرصة المشاركة في الحوار الاجتماعي، حيث حصلت على 27 مقعداً، مقابل 100 مقعد التي فازت بها انتخابات 2015، أي بناقص 70 مقعداً.
ومن مؤشرات ما يُشبه “عمى البصيرة“، حسب الاصطلاح التراثي الذي يوظفه هؤلاء، أنه عِوَض أن يقرأ أتباع المشروع دلالات هذه النتائج من منظور نقدي، نجدهم يُصرون على مغالطة الواقع، كما لو أنهم كانوا يتوقعون عكس ذلك، مع أن مؤشرات الساحة المجتمعية في المغرب، منذ منعطف تولي الحزب الإسلامي الحركي قيادة حكومة ما بعد “الفوضى الخلاقة“، تفيد أن مصير هؤلاء إلى تراجع، بصرف النظر عن المرجعية، لأنه لا يوجد حزب يقود مؤسسة حكومية طيلة عقود، على اعتبار أن تدبير العمل الحكومي، يُصاحب بضرائب مع مرور الزمن، على غرار ما عاينا في مرحلة ما مع تجربة “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية” في قيادة حكومة “التناوب التوافقي“، وليست نتائج الاستحقاق النقابي الذي جرى خلال الأسبوع الماضي، سوى إشارةعلى تراجع المشروع، ولكن “عمى البصيرة” سالف الذكر، يقف وراء تصريح صادر عن أنس الدحموني، عضو الأمانة العامة للاتحاد المغربي للشغل بالمغرب، اعتبر أن “الحديث عن تراجع أمر صعب؛ فالواقع أفرز تقدماً في قطاعات وتراجعاً أو استقراراً في أخرى“، ما دام “الهدف الأساسي هو ضمان التمثيلية المحددة في القانون، ومن المهم ضمان توازن بين القطاعين العام والخاص“.
عندما حرّر فريد الأنصاري ثلاثيته التي توقع فيها هذا الأفول، وهو القادم من نواة المشروع الإخواني، حيث كان قيادياً وازناً في المشروع، بل لا يوجد من ينافسه في العدة العلمية، بما في ذلك الداعية أحمد الريسوني، الذي أصبح اليوم موظفاً هناك في مشروع استراتيجي خليجي، لم يُصدق أتباع وقيادات المشروع حينها تبصر الأنصاري، ولم يستوعبوا الأسباب أو المقدمات التي تجعل قيادياً وازناً ومؤثراً في المشروع، يُقرر الاستقالة بداية، وينشر تلك الأعمال النقدية التحذيرية، التي ما كان ليُحررها لو أنه كان تحت تأثير عمى البصيرة.
ليس صدفة أن الأنصاري، سيشتغل لاحقاً على مشروع بديع الزمان سعيد النورسي، وسيُصبح من المعجبين بأعمال الداعية فتح الله غولن، الذي أصبح بين ليلة وضحاها، من أشد أعداء الرئيس التركي الحالي، رجب طيب أوردوغان، وهو الذي كان تلميذه التربوي في مرحلة ما، خاصة مع استحضار ما قامت به “الجالية التركية” هنا في المغرب، أي نسبة من إسلاميي المغرب، الذين جسدهم هنا، وعقلهم هناك، هذه أمور لا علاقة لها بالصدفة قط.
هناك ملاحظة ثانية ذات صلة بهزيمة نقابة الإسلاميين، مفادها أنه لو حتى فاز مشروع المجرة في استحقاق سبتمبر القادم، وهذا احتمال ضعيف، ولكن حتى لو تحقق، فإن الهزيمة هنا ذاتية أساساً، وبشهادة أهل الداخل، من كثرة التباينات والتناقضات القائمة في الكواليس، إذا كيف يمكن أن تكون صادقاً في الدفاع عن خطاب ومشروع “المرجعية الإسلامية“، وأنت غارق في الريع، وتدافع عنه، أو توظف العلاقات من أجل خدمة مصالح العائلة والأصدقاء ولو تطلب الأمر خرق القانون والتلاعب به أو التحايل عليه، ولولا وجود توازنات وحسابات، لاطلع الرأي العام على العجب العجاب بخصوص طبيعة المشروع، ومآله.