الرأي

الرهان على الجهالات

منتصر حمادة

من كان يتخيل أنه سيأتي زمان علينا، نُعاين فيه هذا الإصرار الغريب على الاستثمار في الجهل، على أساس أنه خيار مساعد في التفاعل مع تطورات الساحة.

لا نقصد هنا أن هناك إرادة حقيقية لتبني هذا الخيار، وأن الأمر مقصود بأن يكون مُعمّماً وجامعاً، وإنما نقصد أن تأمل لائحة العديد من المشاريع التي توجد في الساحة، من قبيل ما تعج به بعض المنابر الإعلامية، والمنصات الفنية وغيرها، تصب في أحقية الحديث عن الاستثمار في الجهل.

نحن نفترض أن المعنيين يعتقدون عن حسن نية أن هذا المشروع يمكنه مساعدتنا ومساعدتهم على تجاوز بعض أزمات الساحة، ولكن على فرض أنهم صادقون في هذه النوايا، علينا أن نخبرهم بأن هذا الرهان يندرج في باب العبث أو التخبط، لأن التجربة التاريخية، تعلمنا أنه لا توجد حضارة أو أمة أو منظومة مجتمعية ما، نهضت وولجت عالم الإبداع والتحضر وإنتاج ما ينفع الوطن والإنسانية عبر رهان الاستثمار في الجهل.

ليس هذا وحسب، وبمقتضى الحضور الكبير للمُحدّد الديني في المغرب والمنطقة العربية بشكل عام، فقد اتضح أن الاستثمار في الجهل مقامات لا حصر لها، لعل أخطر هذه المقامات، ما قد نصطلح عليه بالاستثمار في "الجهل المقدس"، نقول هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أن مصطلح "الجهل المقدس" بلوره الباحث الفرنسي أوليفيه روا، ويقصد به لائحة من المشاريع الإسلاموية بالتحديد، ولا نقصد ما كان يحذر منه الراحل محمد أركون، ولو أن أركون استشهد بهذا المصطلح نقلاً عن روا، على هامش مشاركته في إحدى حلقات برنامج "مباشرة معكم" على القناة الثانية، وعرفت مشاركة فاعل ديني يمثل مؤسسة دينية رسمية [الرابطة المحمدية للعلماء]، ومعني هو الآخر بأهمية الانخراط النظري والعملي في مواجهة هذه المشاريع.

قد يُفرز الاستثمار في الجهل الشعبوية والعدمية والأمية وما إلى ذلك، وفي حالتنا هذا، ورغم أن هذه الأمراض والعاهات تهدد المجتمع، إلا أنها تبقى مشاكل محلية أو إقليمية، ونحن نصرف النظر هنا عن تداخل مشاكل الداخل بالخارج، كما عاينا بشكل واضح مع أحداث "الفوضى الخلاقة" التي اصطلحت عليها مجلة "الفورين أفيرز" الأمريكية بأحداث "الربيع العربي".

ولكن مع الاستثمار في الجهل المقدس، وزيادة على المشاكل التي نعاني منها هنا في المنطقة، تصيب هذه الأمراض حتى الغير، من قبيل الغرب. ومن ذلك أن بعض نتائج هذا الخيار، وجود مشاريع تؤمن بأن الأرض ليست كروية، بينما أخبار المسبارات الفضائية التي ترسلها للفضاء وكالات أمريكية وأوربية وروسية وصينية وغيرها، أصبحت حديث الساعة منذ عقود. [لنتخيل فقط، ردود فعل هؤلاء، لو علموا أن يوجد معنا، هنا في المنطقة، من يؤمن بأن الأرض ليس كروية؟]

لقد شرعت بعض دول المشرق العربي خلال الآونة الأخيرة، في طرق باب الاستثمار الصريح في المعرفة، عبر إطلاق لائحة من المراكز البحثية، بصرف النظر عن تباين أهداف ومشاريع هذه المراكز، فهذا موضوع آخر، ولكن مجرد إطلاق هذه المراكز مبادرة نوعية يجب تثمينها وتشجيعها، بينما الأمر مختلف كلياً في الساحة المغاربية، بما في ذلك الساحة المغربية، بمقتضى غياب أو تواضع الوعي بأهمية الاستثمار في المعرفة، وهذا مؤشر ضمن مؤشرات أخرى، يُفيد أن الساحة في حاجة إلى تدخل حكماء وعقلاء، من طينة رجال دولة وطنيين، من باب النصح وتنبيه صناع القرار لما ينفع الجميع.

ليس صدفة أن الخطاب الملكي الأخير، على هامش افتتاح الدورة التشريعية الخريفية، تحدث بشكل صريح عن حاجة المغرب إلى رجال دولة حقيقيين.

هذا هو المأمول.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عشرة + خمسة عشر =

زر الذهاب إلى الأعلى